ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين. ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله بقوله: "إياك نعبد وإياك نستعين" فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ، يدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى ، وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال. اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم. "وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطوي في "بسم الله الرحمن الرحيم" فذكر الرحمة في أول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء. وعد بالإحسان – لا سيما وقد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى: مالك يوم الدين يتضمن الوعد والوعيد معا ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق ، والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ؛ وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته -ظاهرا وباطنا - يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ، وهذا يتضمن الوعد والوعيد ، أو معنى الدين الجزاء وهو: إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعد ووعيد ، وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك "الصراط المستقيم" وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد.
- إعراب القرآن الكريم: إعراب صراطَ الذين أنعمْتَ عليْهِم (6)
- في تفسير قوله تعالى ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} - منتدى جامع الائمة الثقافي
إعراب القرآن الكريم: إعراب صراطَ الذين أنعمْتَ عليْهِم (6)
أي: الذين أنعم الله عليهم بأجلِّ نعمةٍ وأعظَمِها، وهي نعمة الإيمان، كما قال تعالى ردًّا على الأعراب: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]. في تفسير قوله تعالى ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} - منتدى جامع الائمة الثقافي. و﴿ النَّبِيِّينَ ﴾ جمع نبي، ويدخل فيهم الرسل من باب أولى؛ لأن كل رسول نبيٌّ ولا عكس، ويأتي في مقدمتهم أولو العزم، كما قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]. وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]. ﴿ وَالصِّدِّيقِينَ ﴾: جمع صِدِّيق، يدخل فيهم من ثبَتَ بالكتاب أو السنة وصفُه أو تسميته بذلك، منهم مريم ابنة عمران التي قال الله عنها: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]. ومنهم أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه "الصِّدِّيق"، وسيأتي الحديث في ذلك.
في تفسير قوله تعالى ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} - منتدى جامع الائمة الثقافي
وأوعد المخالفين: بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم. ثالثها: العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس. رابعها: بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه ، الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة. خامسها: قصص من وقف عند حدود الله تعالى ، وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين. هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب. تفسير صراط الذين انعمت عليهم. فأما التوحيد ففي قوله: الحمد لله رب العالمين لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرح به بقوله: "رب العالمين". ولفظ "رب" ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء. وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في [ ص: 27] نفسه وفي الآفاق منه عز وجل. فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء ، والإسعاد سواه.
تفسير قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... ﴾ [الفاتحة: 7]
قوله: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾: ﴿ صِرَاطَ ﴾ بدلُ كلٍّ من (الصراط) في قوله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، أو عطف بيان، و﴿ الَّذِينَ ﴾ مضاف إليه، وما بعده صلة الموصول. وفائدة هذا التوكيدُ والإيضاح والبيان، فهو تفسير للصراط المستقيم، وبيان أنه صراط المنعم عليهم [1] ، وفي ذلك شهادة له بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده [2]. إعراب القرآن الكريم: إعراب صراطَ الذين أنعمْتَ عليْهِم (6). وإنما عرِّف الصراط في الموضع الأول "بأل"، وهنا بالإضافة؛ لأن طريق الحق واحد، أما طُرق الشر فهي كثيرة متعددة متشعبة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]. وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جَنَبَتَيِ الصراط سُورانِ فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعُوجوا، وداعٍ يدعو فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تَلِجُه؛ فالصراطُ الإسلام، والسوران حدودُ الله، والأبواب المفتحة محارمُ الله، وذلك الداعي على الصراط كتابُ الله، والداعي من فوق الصراط واعظُ الله في قلب كل مسلم)) [3].