فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الكلام: والشمس والقمر ، كل ذلك في دائر يسبحون. وأما قوله: ( يسبحون) فإن معناه: يجرون. حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: ( كل في فلك يسبحون) قال: يجرون. [ ص: 439] حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( يسبحون) قال: يجرون. وقيل: ( كل في فلك يسبحون) فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون ، ولم يقل: يسبحن أو تسبح ، كما قيل: ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) لأن السجود من أفعال بني آدم ، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم ، أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم.
كلٌّ في فلك يسبحون | Meem Magazine مجلة ميم
والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم ، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ، ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام ، وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر ، والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر ، وهو الموج المستدير ، بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد; والأصل الأصيل في ذلك كله فلكة المغزل ، بفتح الفاء وسكون اللام ، وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغزل. ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: كل في فلك " فيه محسن بديعي ، فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة ، ومثله قوله تعالى: " ربك فكبر " بطرح واو العطف ، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف ، وهذا النوع سماه السكاكي المقلوب المستوي ، وجعله من أصناف نوع سماه القلب. وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسماها الحريري في المقامات " ما لا يستحيل بالانعكاس " ، وبنى عليه المقامة السادسة عشرة ، ووضع أمثلة نثرا ونظما ، وفي معظم ما وضعه من [ ص: 62] الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة ، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك ، والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها ، وكلما زادت طولا زادت ثقلا.
“كلٌّ في فلك يسبحون” | صحيفة الخليج
كل في فلك يسبحون
مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكرا مجملا في بعضها الذي هو آيات السماء ، ومفصلا في بعض آخر وهو الشمس والقمر ، كان المقام مثيرا في نفوس السامعين سؤالا عن كيفية سيرها ، وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم ، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره ، وضمير " يسبحون " عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر ، وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القمر والكوكب. وقال في " الكشاف " إنه روعي فيه وصفها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضا ضمير العقلاء ، يعني فيكون ذلك ترشيحا للاستعارة. وقوله تعالى " في فلك " ظرف مستقر خبر عن " كل " ، و " كل " مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، أي كل تلك ، فهو معرفة تقديرا ، وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلا من المذكورات مستقر [ ص: 61] في فلك لا يصادم فلك غيره ، وقد علم من لفظ " كل " ومن ظرفية " في " أن لفظ " فلك " عام ، أي لكل منها فلكه ، فهي أفلاك كثيرة. وجملة " يسبحون " في موضع الحال. والسبح: مستعار للسير في متسع ، لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض ، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون- ج3 – موقع اعجاز القرآن والسنة | الاعجاز العلمي في القرآن| معجزات القرآن |
القول في تأويل قوله تعالى: ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ( 32) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ( 33)) [ ص: 436] يقول تعالى ذكره: ( وجعلنا السماء سقفا) للأرض مسموكا ، وقوله: ( محفوظا) يقول: حفظناها من كل شيطان رجيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: ( سقفا محفوظا) قال: مرفوعا. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله. حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله: ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا)... الآية: سقفا مرفوعا ، وموجا مكفوفا. وقوله: ( وهم عن آياتها معرضون) يقول: وهؤلاء المشركون عن آيات السماء. ويعني بآياتها شمسها وقمرها ونجومها. ( معرضون) يقول: يعرضون عن التفكر فيها وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم ، ودلالتها على وحدانية خالقها ، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسواها ، ولا تصلح إلا له. حدثنا محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ( وهم عن آياتها معرضون) قال: الشمس والقمر والنجوم آيات السماء.
كل في فلك يسبحون .. إعجاز وتحليل
مفاتيح الغيب " (19/101)
ثانيا:
وأما الآية الثانية التي يصف الرب فيها عز وجل الشمس والقمر بالسباحة في الفلك فقد
جاء ذلك في موضعين من القرآن الكريم:
الأول: قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الأنبياء/33
والثاني: قوله عز وجل: ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ
وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس/40
وحاصل تفسير العلماء لهذه الآية هو أنها تصف النجوم والشمس والقمر والأفلاك
بالدوران والحركة والسير في الفضاء الفسيح دورانا محكما موزونا. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" (
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: يدورون. قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة. وكذا قال مجاهد: فلا يدور
المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر لا
يدورون إلا به ، ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ
اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ) الأنعام/96. " انتهى. تفسير القرآن العظيم " (5/341)
ويقول العلامة القرطبي رحمه الله:
كلٌّ) يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار ( في فلك يسبحون) أي: يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء " انتهى.
وعرفته دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي بأنه علم مداره الأجرام العلوية، أي الشموس والسيارات والثوابت (في رأي العين) وتوابعها وذوات الأذناب، وهو قسمان نظري وعملي: الأول يصف تلك الأجرام ويبين لنا أبعادها وحركتها وفصولها السنوية وهيئاتها، والثاني يبحث عن كيفية رصد تلك الأجرام. وقد حثت آيات القرآن الكريم في مواضع عديدة على النظر في ملكوت السموات والأرض وكان اهتمام المسلمين بعلم الفلك بالدرجة الأولى بسبب احتياجهم لمعرفة الزمن وتحديد مواقيت الصلاة وظهور الهلال ومواعيد الأعياد وتأدية المناسك والعبادات وتحديد اتجاه القبلة ومواقع البلدان، وغير ذلك مما يتعلق بأمور دينهم الحنيف الذي فرض على الناس أن يتفكروا ويعقلوا ويعلموا، مثلما فرض على أتباعه أن يتعبدوا ويذكروا الله تعالى في جميع الأحوال وعموم الأوقات. قال تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار" (آل عمران: 190 191). وقال أبو عبدالله القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" مسترشداً بقوله تعالى: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج" (ق: 6) إن المراد من النظر التفكير في المعقولات والنظر في المحسوسات والبحث عن حكمتها وتصاريفها لتظهر لنا حقائقها، فإنها سبب اللذات الدنيوية والسعادات الأخروية وكل من أمعن النظر ازداد من الله هداية ويقيناً، ونوراً وتحقيقاً
د.