ومن حسن المناسبة لذكر موهبة سليمان أنه ولد لداود من المرأة التي عوتب داود لأجل استنزال زوجها أوريا عنها كما تقدّم ، فكانت موهبة سليمان لداود منها مكرمة عظيمة هي أثر مغفرة الله لداود تلك المخالفة التي يقتضي قدره تجنبها وإن كانت مباحة وتحققه لتعقيب الأخبار عن المغفرة له بقوله: { وإنَّ له عندنا لزلفى وحُسن مئَابٍ} [ ص: 40] فقد رضي الله عنه فوهب له من تلك الزوجة نبيئاً ومَلِكاً عظيماً. فجملة { ووهبنا لداود سُليمانَ} عطف على جملة { إنا سخرنا الجبال معه} [ ص: 18] وما بعدها من الجمل. وجملة { نِعْمَ العَبْدُ} في موضع الحال من { سُلَيْمانَ} وهي ثناء عليه ومدح له من جملة من استحقوا عنوان العبد لله ، وهو العنوان المقصود منه التقريب بالقرينة كما تقدم في قوله تعالى: { إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم} في سورة [ الصافات: 40 - 41]. سليمان الحكيم (ع) النبي الذي سخّر له جنود من الجن والطير.. والريح. والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله: { سُلَيْمان} والتقدير: نعم العبد سليمان. وجملة { إنَّه أوَّابٌ} تعليل للثناء عليه ب { نِعْمَ العَبْدُ. } والأوّاب: مبالغة في الآيب أي كثير الأوْب ، أي الرجوع إلى الله بقرينة أنه مادحه. والمراد من الأوب إلى الله: الأوب إلى أمره ونهيه ، أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب ، أي فتاب ، وتقدم ذلك آنفاً في ذكر داود.
سليمان الحكيم (ع) النبي الذي سخّر له جنود من الجن والطير.. والريح
إعراب الآية 30 من سورة ص - إعراب القرآن الكريم - سورة ص: عدد الآيات 88 - - الصفحة 455 - الجزء 23. (وَوَهَبْنا) الواو حرف استئناف وماض وفاعله (لِداوُدَ) متعلقان بوهبنا (سُلَيْمانَ) مفعوله والجملة استئنافية لا محل لها (نِعْمَ) ماض جامد (الْعَبْدُ) فاعل (إِنَّهُ أَوَّابٌ) إن واسمها وخبرها والجملة تعليلية لجملة نعم وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) جُعل التخلصُ إلى مناقب سليمان عليه السلام من جهة أنه من مِنن الله على داود عليه السلام ، فكانت قصة سليمان كالتكملة لقصة داود. ولم يكن لحال سليمان عليه السلام شَبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك جزمنا بأن لم يكن ذكر قصته هنا مِثالاً لحال محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها إتمام لما أنعم الله به على داود إذ أعطاه سليمان ابناً بهجةً له في حياته وورث ملكه بعد مماته ، كما أنبأ عنه قوله تعالى: { ووهبنا لداوُود سُليمان} الآية. إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة ص - قوله تعالى ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب - الجزء رقم11. ولهذه النكتة لم تفتتح قصة سليمان بعبارة: واذكر ، كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب ، والقصص بعدها مفصَّلها ومجملها غير أنها لم تخل من مواضع إسوة وعبرة وتحذير على عادة القرآن من افتراض الإِرشاد.
وكان الجن كل فترة ينظرون إلى داخل بيت المقدس فيجدونه مازال واقفا فيعتقدون أنه ازال حيا، وظلوا هكذا حتى تهالكت عصاه وتآكلت فسقط على الأرض، وعندما علم الجن بوفاته أصيبوا بالخوف والفزع واعترفوا أن قدرتهم على معرفة الغيب معدومة، فلقد توفى سيدنا سليمان دون أن يعرفوا، واستمروا في العمل الشاق، وقد قال سبحانه وتعالى عن هذا (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة ص - قوله تعالى ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب - الجزء رقم11
أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة؟ قالت رضي اللّه عنها: فضحك صلى اللّه عليه وسلم حتى رأيت نواجذه" "أخرجه أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي اللّه عنها".
هذا هو سليمان، النبي الملك الحكيم، المجاهد في سبيل الله؛ وكأبيه كان يخصص وقتاً يجلس فيه ليستمع إلى شكاوى الناس وربما غيرهم من المخلوقات – ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه..
وعلى عظمته وسلطته على كثير من المخلوقات كان همه الوحيد أن يُعبد الله في الأرض:
يعبده هو، ويعبده سكان مملكته، ويعبده أهل الأرض جميعاً لو استطاع ولذلك سخر كل طاقاته وكل ما هو مسَخّر له لبناء معبد لله وهو ما عرف بهيكل سليمان (ع) وما أدراك ما هيكل سليمان؟! وخير الختام هذه الرواية عن صفة سليمان الحكيم العابد الزاهد رغم غناه، الضعيف أمام ربه رغم قوته أمام أعدائه: "وكان سليمان إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم ويقول: مسكين مع المساكين، وكان مع ما فيه من الملك يلبس الشعر، وإذا جنّه الليل شدّ يديه إلى عنقه، فلا يزال قائماً حتى يصبح باكياً، وكان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده... "[3]. الهوامش:
[1]- تفسير الميزان/ العلامة الطبطبائي (ره)، ج19، ص350. [2]- النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، الجزائري، ط الأعلمي 1978، ص407. [3]- المصدر نفسه/ ص412. المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 21 و22 لسنة 1991م
القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة ص - الآية 30
أما أمر الوراثة فإنّه يشمل المال والملك وإن كان يشترك معه إخوته إن وجدوا بمال أبيه الخاص. فيكون سليمان (ع) قد ورث مملكة عظيمة الشأن، قوية مزدهرة. وطبيعي ألا يُقصد بالإرث هنا العلم والحكمة والنبوة، وذلك لأنّ سليمان (ع) نبي "والنبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنّه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي، والعلم الذي يختص به الأنبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يُكتسب بالفكر، فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر ولا من غير نبي"[1]. وهكذا أضحى سليمان (ع) الخليفة لله في الأرض بعد أبيه، ولذلك توجّه إلى الناس مخاطباً من مموقع المسؤولية، فيذكّر الناس بما آتاه الله وأباه من قبل على قادة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/ 11)، وليبين لهم مقدّرات الدولة الموجودة تحت تصرفه، وربما أوضح أموراً وبرنامجاً لعمله لم يذكره القرآن الكريم لأنّه ليس كتاب تاريخ. وما يؤكد ذلك الآية: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ... ) (النمل/ 17-18)، وكأنّه قد طوي كلام عن كيفية بدئه بالحكم وخطته، واكتفي بذكر تحرّكه مع جنوده في سبيل الله.
ووهبنا لداوود سليمان - سلمان العتيبي | HD! - YouTube