فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا، وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح، وأنها قد أخذت بحظها من الثقل، فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل. ابن عطية - المكتبة الشاملة. قال الله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل: 5]. قال المفسرون: أي علم معانيه والعمل بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قيدوا العلم بالكتاب ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي [ ص: 9] في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني، وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا، لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به، وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز، وأهل القول بعلم الباطن، وغيرهم، فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين، نبهت عليه. وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم، أو نحو، أو لغة، أو معنى، أو قراءة، وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين. ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي -رحمه الله- مفرق للنظر، مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات: مستعملها وشاذها، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ، كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي، وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول.
ابن عطية - المكتبة الشاملة
محسن علي عطية.
قوله تعالى: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
"كل" إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر، فهي بمثابة: "قبل وبعد" ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل- على حد "قبل وبعد"، فالمقدر هنا على قول فرقة: ولكل أحد - وعلى قول فرقة: ولكل شيء، يعني: التركة. والمولى -في كلام العرب- لفظة يشترك فيها: القريب القرابة، والصديق، والحليف، والمعتق، والمعتق، والوارث، والعبد فيما حكى ابن سيده، ويحسن هنا من هذا الاشتراك: الورثة، لأنها تصلح على تأويل: ولكل أحد ، وعلى تأويل: ولكل شيء، وبذلك فسر قتادة والسدي، وابن عباس وغيرهم: أن "الموالي": العصبة والورثة. تفسير ابن عطية طبعة قطر pdf. قال ابن زيد: لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها، وذلك في قول الله تعالى: فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم. [ ص: 538] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد سمي قوم من العجم ببني العم.
ابن عطية ومنهجه في التفسير
- وفوق كل ما تقدم فقد أوتي ابن عطية قدرة على التنظيم والتنسيق وحسن العرض، مالم يتوفر لغيره، مما جعل تفسيره يلقى ذلك القبول، ويُمدح بأفضل المقول. تفسير ابن عطية pdf. كانت تلك أهم معالم منهج ابن عطية في \"تفسيره\"º وقد تأثر كثير من العلماء الذين جاؤوا من بعده بمنهجه، واقتفوا أثرهº ومن بين أولئك العلماء الذين ساروا على دربه ونهجوا نهجه الإمام القرطبي رحمه الله. بقي أن نشير - ختامًا - إلى أن هذا التفسير بقي حبيساً في المخطوطات قرابة ألف عام إلا قليلاً، إلى أن قيَّض الله له ثلة من العلماء الأجلاء، الذين تولوا إخراجه إلى النور في ثوب قشيب من التحقيق والتدقيق والتعليق. فجزى الله الجميع خيراً، وجعل ذلك في صحائفهم، ونفع الله به المسلمين، وجعل مؤلفه في أعلى علِّيِّن آمين.
قالت فرقة: معنى "تخافون": تعلمون وتتيقنون، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن: [ ص: 542] ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقالت فرقة: الخوف هاهنا- على بابه في التوقع، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف. "والنشوز": أن تتعوج المرأة، وترتفع في خلقها، وتستعلي على زوجها وهو من نشز الأرض، يقال: ناشز، وناشص، ومنه بيت الأعشى: تجللها شيخ عشاء فأصبحت قضاعية تأتي الكواهن ناشصا
و"فعظوهن" معناه: ذكروهن أمر الله، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه، وقرأ إبراهيم النخعي: "في المضجع" ، وهو واحد يدل على الجمع. واختلف المتأولون في قوله: "اهجروهن"، فقالت فرقة: معناه: جنبوا جماعهن، وجعلوا "في" للوعاء على بابها دون حذف، قال ابن عباس: يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. إسلام ويب - تفسير ابن عطية - تفسير سورة الكوثر. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعتهن، فيتقدر على هذا القول حذف تقديره: واهجروهن برفض المضاجع، أو بترك المضاجع. وقال سعيد بن جبير: هي هجرة الكلام، أي: لا تكلموهن، وأعرضوا عنهن، فيقدر حذف تقديره: [ ص: 543] واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها، وقال ابن عباس أيضا:
معناه: وقولوا لهن هجرا من القول، أي: إغلاظا، حتى يراجعن المضاجع، وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى: هجر وأهجر بمعنى واحد.
إسلام ويب - تفسير ابن عطية - تفسير سورة الكوثر
وقالت فرقة: الضمير في "نوره" عائد على الله تعالى، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد بالنور الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: سماء الله، وناقة الله، فقال بعضها: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضها: هو المؤمن، وقال بعضها: هو الإيمان والقرآن، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى، فكأن اليهود لما تأولوا الله نور السماوات والأرض الآية بمعنى الضوء قيل لهم: ليس كذلك، وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وهاديه، مثل نوره في محمد صلى الله عليه وسلم، أو في المؤمن، أو في القرآن والإيمان كمشكاة، وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه. وهذه الأقوال الثلاثة تضطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل، فعلى قول من قال: "الممثل به محمد صلى الله عليه وسلم -وهو قول كعب الخير - فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة، أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي. وعلى قول من قال: "الممثل به المؤمن" -وهو قول أبي بن كعب - فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها، قال أبي: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
فضلًا شارك في تحريرها. ع ن ت