يتنافى هذا الإجماع مع جينات اللبنانيين ويتلاقى مع شخصية فيروز، التي لم تأتِ يوماً خطوة أو كلمة أو لمحة، تنبئ عن طائفتها أو حزبها أو نائبها أو حكومتها. غنَّت بالحضور الجميل نفسه؛ لمكة وللقدس ولأهداب لبنان. غمرته مثل طفل يتيم ومعذب ومقهور ومتروك، وهتفت له: «بحبك يا لبنان، يا وطني بحبك». وكان اللبنانيون الهاربون من الحرب يصغون إلى الأغنية فيعودون. يقولون في لبنان «ما حدا أكبر من بلده». وفيروز صارت أكبر من لبنان. حضرت ذات زمن في بلاط المغرب، وفي ديوان الأردن، وعلى سواحل تونس، وفي صعيد مصر، ودائماً في «شوارع القدس العتيقة». أعجوبة من أعاجيب القدر جمعت بين ثلاثة من عباقرة الزمان: الرحبانيان؛ عاصي ومنصور، وصاحبة هذا الصوت؛ نهاد حداد، التي تُعرِّف عن نفسها بأنها ابنة «زلمي درويش يعمل جامع أحرف في مطبعة (جاندارك). وكان بيتنا من غرفة واحدة، حمّامه مشترك مع الجيران. شايف البحر شو كبير كلمات. وعندما جاء عاصي يطلب يدي من أبي طبخت له بطاطا وسلاطة». غنت فيروز لفرح لبنان وقلبها داخل العائلة يتقطر دماً وحزناً… «نحن عائلة من المأساة اليونانية» قالت ذات يوم. ابن يصاب بالشلل وابنة تموت. وذات يوم يسأل عاصي طفلته المريضة: قديه بتحبيني؟ فتقول: «شايف البحر شو كبير؛ قد البحر بحبك».
شايف البحر شو كبير فيروز
كلمات اغنية شايف البحر شو كبير شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك
شايف السما شو بعيدي بعد السما بحبك
كبر البحر و بعد السما بحبك يا حبيبي بحبك
نطرتك أنا ندهتك أنا رسمتك على المشاوير
يا هم العمر يا دمع الزهر يا مواسم العصافير
ما أوسع الغابة وسع الغابة قلبي
يا مصور عبابي و مصور بقلبي
نطرتك سنى يا طول السني و اسأل شجر الجوز
و شوفك بالصحو جايي من الصحو و ضايع بورق اللوز
ما أصغر الدمعة أنا دمعة بدربك
بدي أندر شمعة و تخليني حبك
شايف البحر شو كبير كلمات
ويقوم الأب إلى عوده ويكتب ويلحن لفيروز أجمل أغانيها: «شايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك – شايف السما شو بعيدة، بُعد السما بحبك». أم إنها ليست أجمل أغانيها؟ أم إن أجملها «أنا لحبيبي وحبيبي إلي»، أم «غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبى بعيوني»، أم «يا جبل اللي بعيد – خلفك حبايبنا» أم «وجك ما كان يفارقني وجرِّب اسبح ويغرقني»؟! شايف البحر شو كبير , اغنية فيروز المطربة لبنانية - صوري. في صوت فيروز، المغني في لبنان وحيداً منذ ستة عقود، أعاد الأخوان رحباني سحر الشعر العربي، وجددا آثار سيد درويش، وجمَّدا طقاطيق القرى، وعرَّبا اللحن الغربي، وأعليا المسرح التاريخي، وأغنيا الفلكلور الشعبي، وأخجلا ذوي الخيانة والإنكار الوطني. مهما عبرت عن حبي لفيروز فلن أعبِّر… لا هي سوف تعرف؛ ولا أنا. نحن جيل أعطت فيروز حياته ما أعطاه صوتها للشعر والموسيقى: فرح الأوان ومتعة الحنين.
شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك
لعل الكلمة المفتاح للمسألة هي "شايف".. لو كانت "مُدرك" لكان من الممكن تعديل المقارنة إلى ما يتلاءم مع عصر التليسكوبات والمجسّات المتطورة ولكان منطقيًّا أن تصبح: "مدرك كِبر حجم مجرة درب التبّانة؟ بِقُطر 100. 000 سنة ضوئية بحبك. " لكنها بهذه الصيغة لن يكون لها الوقع ذاته، ربما لأن حاسة البصر المحدودة تسبق العقل والأعمال الحسابية في التأثير على النفس. اغنية شايف البحر شو كبير - فيروز - لحن عربي. ويخطر في بالي الآن أنَّ المسألة قد تكون متعلقة بمبدأ المقارنة نفسه؛ إذ لماذا يجب أن تكون هناك مقارنة أصلاً؟! لما لا يمكن للمحب أن يعبِّر عن إخلاصه وصدق نواياه بشكل مباشر دون أن يضطر للجوء لأية صور جمالية مادية تجسد المعنى وتقربه للعين ومنها للقلب؛ كأن يقول: "شايف مهما كان اللي فيه خير لك صعب وبعيد؟ بحبك بدرجة تخليني أعمل كل جهدي عشان أحققه لك. " مفهوم طبعًا أنَّ هذا الكلام لن يكون خفيفًا لطيفًا للمسامع، ولن يداعب الأذن، ولن يصل القلب في اللحظة ذاتها بالتأثير المرجو. بما يخاطب الحواس والقلب وليس الإدراك والعقل، وبعبارات مبهمة وفضفاضة دون تحديدٍ للمعاني والمقاصد، هكذا درجت العادة في خطب ودِّ ورضا الحبيب. وتبقى تساؤلات عن إمكانية استخدام ذلك في مجالات أخرى كالسياسة؛ هل يُخطَب ودُّ المواطن للوصول إلى منصبٍ ما؟ هل تكفي عبارات وشعارات جذابة ومحاولة الوصول لقلبه لا لعقله؟ هل هو ممكن لِجموع الملايين كما هو بالنسبة لشخص واحد؟ وإذ تُكمل فيروز أغنيتها بــ"نطرتك(*) أنا، ندهتك أنا، رسمتك على المشاوير" ربما تنبِّهنا أنَّ للانتظار دوره؛ فكلما طال الانتظار وزادت معاناة شعب، كان لوعود خاطبي ودِّه مصداقية أكبر، لكنها ليست أكبر من تلك التي للسيرة السابقة والمسيرة المتَّبعة والإنجازات المأمولة.
وبموازاة ذلك، ستظهر تلك الممارسة على قوائم «التريند»، وسينخرط مستخدمو «السوشيال ميديا» فى سجالات قوية بشأنها، وستتصادم الآراء أو تتوافق بحسب طبيعة الوسيط وذائقة جمهوره، وسيُظن مع هذا التفاعل أن تلك القضية هى القضية الكونية والوطنية الأولى والأكثر استحقاقاً للتفكير فيها ودراسة أبعادها والاصطفاف مع أحد أطرافها أو ضده. وتتعلق الخطوة الثالثة بمنظور تقديم تلك الممارسة الزاعقة. والمنظور هو الإطار الذى يتم تقديم المادة المستخدمة إعلامياً من خلاله، فعبر ذلك الإطار تتحدد أهميته ويتم تعيين اتجاه التفاعل معه. شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك. وقد أضحى منظور «القيمة» هو الأكثر استخداماً فى تصنيع الأولويات الوطنية؛ إذ لا تتموضع القيمة فى هذا السياق بوصفها محفز سلوك وموجهاً أخلاقياً فقط، ولكن أيضاً باعتبارها مرتكزاً حيوياً ودليل انتماء وصك هوية ومُقدس عقائدى. عندما يتم وضع الممارسة الزاعقة التى لم تكن سوى «رأى غير مدروس» أو «نقد لتوجه دينى» أو «فستان من دون بطانة» فى إطار قيمى، فإنها تتضخم وتتحول إلى موضوع أكبر مثل «الوطنية» أو «الدفاع عن الدين» أو «الشرف»، وهنا تبدأ الممارسة الزاعقة فى التمركز فى الواقع كأولوية متقدمة تجب ما عداها من أولويات حتى ولو انطوت على قدر وافر من الخطورة والجدية.