إنها عبادة
استوقفت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: حين سُمِع نشيجه عند هذه الآية واستوقفته حين كان مع
أصحابه، فاستوقفته امرأة عجوز فترك الناس وقام معها فأطال القيام حتى قضى حاجتها
فانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبستْ رجالات قريش على هذه العجوز! قال: ويحك، وتدري مَن هذه؟! قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها مِن فوق سبع
سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تتصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضى
حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضى حاجتها (وإن كان
هذا الأثر منقطعًا، فقد روي مِن غير وجهٍ). إن عبادة
الشكوى إلى الله مِن أجلها قدَّر الله المحنة والبلاء، بل والمعصية والكفر، حتى يَسمع
تضرع عباده إليه، ويؤخر إجابة دعوتهم -وقد أجابها-؛ لأنه يحب أن يسمع تضرعهم
وشكواهم إليه ( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) (الأنعام:43) ، فهل وجدت أخي المبتلى مفتاح الكنز الذي معك،
وربما لا تدري؟ فهلا فتحت القفل بالمفتاح وأعددت القلب ليفضَى عليه مِن الرحمة ويُسبغ
عليه من النعمة؟! الشكوى لله وحده - حياتكِ. اللهم نشكو ما نزل بنا وبالمسلمين، ونؤمن بك
ونتوكل عليك، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، فاللهم فرِّج كرب المكروبين، وفك أسر
المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم استر عورات المسلمين وآمن روعاتهم،
وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم وجرحاهم، وخفف
آلامهم، وارحم أطفالهم وأيتامهم وأراملهم، ورجالهم ونساءهم في كل مكان يا رب
العالمين.
فوائد انما اشكو بثي وحزني الى الله عليه وسلم
للدعاء المستجاب أسرار كثيرة، ومن أجل هذه الأسرار: شكاية الحال إلى الله، وإذا ما نظرنا إلى حال أنبياء الله في الدعاء، رأينا أنهم كانوا دائمًا ما يبثون شكواهم إلى ربهم، فتكون الاستجابة بعدها:
موسى عليه السلام يناجي ربه ويشكو إليه حاله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فبعد أن جاء طريدًا وحيدًا خائفًا، فأعطاه المولى عز وجل بعد ذلك المأمن والمأكل والمشرب والعمل والزوجة. وأيوب عليه السلام يشكو حاله إلى ربه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
فوائد انما اشكو بثي وحزني الى الله العظمى السيد
ويونس عليه السلام يشكو حاله إلى ربه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88]. وزكريا عليه السلام يشكو حاله إلى ربه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90]. ماهي فوائد الصلاة في الدنيا ؟ - الإسلام سؤال وجواب. ويعقوب عليه السلام كان يشكو حاله إلى ربه: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] فكانت النتيجة: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96]. فبث شكواك إلى ربك وكن موقنًا بالإجابة...
فوائد انما اشكو بثي وحزني الى الله
سلسلة الفوائد اليومية:
(**) قال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال:
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
(**) قال ابن القيم في كتابه (الفوائد), (ص: 87):
() فائدة:
() الجاهل يشكو الله إلى الناس,
وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛
فانه لو عرف ربه لما شكاه,
ولو عرف الناس لما شكا إليهم. (**) ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال: يا هذا والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك. (**) وفي ذلك قيل:
وَإِذَا شَكَوْت إلَى ابْنِ آدَمَ إنَّمَا
تَشْكُو الرَّحِيمَ إلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ
(**) والعارف انما يشكو إلى الله وحده, … الخ). فوائد انما اشكو بثي وحزني الى الله عليه وسلم. اهـ
(**) وقال الشاعر:
لا تُبدينَ لعاذل أو عاذر
حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين مرارة
في القلب مثل شماتة الأعداء
(**) وقال آخر:
وإذا بليت بعسرة فالبس لها
صبر الكريم فإن ذلك أحزم
لا تشكون إلى العباد فإنما
وإذا تُصبكَ خصاصةٌ فارْجُ الغنى
وإلى الذي يُعْطي الرغائبَ فارْغَبِ
شاد الملوك قصورهم وتحصنوا
من كل طالب حاجة أو راغب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن
يا ذا الضراعة طالبا من طالب
(**) والله الموفق. (**) كتبها: أبو عبد الله أحمد بن ثابت الوصابي
(**) الجمعة 8 / 2 / 1442 هـ.
ابتلاء الدنيا
خلق الله تعالى الإنسان لغاية سامية، وهي عبادته عز وجل وحده وعدم الشرك به، وطاعته والبعد عن معصيته، ولما كانت الحياة الدنيا رحلة فناء ورحلةً مؤقتةً، كان الإنسان فيها مجبرًا على الابتلاءات، والضغوط، والضرر، والتعرض للظلم والمتاعب، وكان واجبًا عليه الصبر عليها، والصبر في مفهومه هو عدم التذمر والشكوى للناس من قضاء الله، بل الشكوى لله وحده والإقبال عليه.