القصيدة الجيدة لا تحسب بالفدادين أو بالكيلومترات، بل بقدرتها على الإضاءة السريعة، كما يضيء البرق الدنيا بثانية.. " فلا عبرة بهذا المعنى عند نزار للكم الشعري، و لا بعدد الدواوين أو القصائد و إنما بالكيف فالمعيار هو الجودة و الجدة. بهذا يكون الشعر عملا أدبيا يهدف إلى التغيير من حال سيء إلى حال أفضل منه و أحسن. يقول نزار "الشعر انقلاب بالكلمات يحاول تغيير وجه العالم.. انقلاب يقوم به عاشق.. ليحوّل الأرض كلها إلى بستان للعشق. الشعر خطاب إنساني يتوجه إلى (الآخر).. و لا قيمة لشعر يخاطب الفراغ.. أو الملائكة.. أو يخاطب نفسه. الشعر فعل رقيّ و حضارة ، و بطبيعته مع الشمس ضد العتمة.. و مع الوردة ضد المسدّس…و مع الليبرالية ضد القمع.. و مع الحب ضد الكراهية.. و مع المشنوق ضد حبل المشنقة". و نزار هنا لا يكاد يخرج عن تعريف الجاحظ السابق الذكر " الشعر فضيلة العرب" إلا بتفصيل ما أجمل مع التمثيل لبعض معاني الفضيلة. شروط الشعر عند نزار قباني: " الشعر.. خطاب نكتبه للآخرين.. شعر نزار قباني. خطاب نكتبه إلى جهة ما.. و المُرسَل إليه عنصر هامٌ في كل كتابة ، و ليس هناك كتابة لا تخاطب أحداً.. و إلاَّ تحولت إلى جرسٍ يقرع في العدم. و أزمة الشاعر الحديث الأولى هي أنه أضاع عنوان الجمهور.. " و يضيف متسائلا و مجيبا في الآن نفسه " لماذا يعيد موزّعُ البريد قصائد شعرائنا إليهم؟ لأنهم نسوا عنوان الشعب".
صوت العراق | لنفترق قليلا . . للشاعر نزار قباني
ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل.. خاصة قصائده السياسة خلال فترة التسعينات مثل: متى يعلنون وفاة العرب؟؟ ، و المهرولون. وافته المنية في لندن يوم 30/4/1998 عن عمر يناهز 75 عاما قضى منها اكثر من 50 عاماً في الحب و السياسة و الثوره. كل الأساطير ماتت …. بموتك … وانتحرت شهرزاد.
شعر نزار قباني
فإذا اجتمع كل ذلك في القصيدة السياسية، جاز لنا أن نتوقع إنجازاً شعرياً/ سياسياً مختلفاً عن «التعليق» السياسي أو «الريبورتاج» الصحفي الذي يهتز بين يوم وآخر. ولكن هذه الشروط كانت تنقص مع الأسف قصيدة نزار قباني السياسية. بداية لم يكن نزار مثقفاً ثقافة فكرية أو سياسية ذت شأن. فبعد نيله شهادة الليسانس في الحقوق من الجامعة السورية (جامعة دمشق الآن) في بداية العشرينيات من عمره، جرى تعيينه سكرتيراً أو ملحقاً بسفارة سورية في القاهرة. وقد أمضى في سلك الوظيفة قرابة ثلث قرن من عمره موظفاً شديد الانضباط حتى استقالته منها وانصرافه للعمل بعد ذلك في مهنة النشر. على مدار حياته كتب قصيدة واحدة (في عدد لا يحصى من القصائد) موضوعها ذلك العراك الدائم بين الرجل والمرأة فنجح حيناً وفشل حيناً آخر،إلى أن طمح بأن يضيف إلى لقب «شاعر المرأة» (الذي كان يضيق به ضيقاً شديداً) لقب آخر هو لقب «الشاعر السياسي» أو «الشاعر القومي». صوت العراق | لنفترق قليلا . . للشاعر نزار قباني. ولكن هذا الأخير له شروطه الصعبة التي أشرنا إليها، والتي لم يكن نزار يحوزها على الإطلاق. ولذلك تهاتر شعره السياسي مع الوقت، وتعرض الشاعر بسبب هذا الشعر إلى حملة واسعة من النقد شارك فيها نقاد وباحثون ومفكرون وصحفيون فنّدوا هذا الشعر، وتوقفوا عند نقاط ضعفه، وأشاروا إلى سقطاته.
ومن وحي كل ذلك، اضطر الشاعر إلى التبرؤ منه وإعلان تراجعه عنه. فالتراجع، والحالة هذه، مردُّها سوء عاقبة هذا الشعر وضلال بوصلته، وليس كون المسرح السياسي العربي مسرحاً شديد الاهتزاز، يتغير فيه المشهد بين ليلة وضحاها، وما إلى ذلك من الذرائع التي ساقها الشاعر في «مانيفست» تراجعه في مجلة «الهلال» المصرية، عدد يونية ١٩٩٤م. ولعل ضلال «بوصلة» الشاعر، وافتقاده «ثقافة» سياسية وفكرية سوية، كانا وحدهما وراء فشل قصيدته السياسية، ففي حمّى اندفاعه للحصول على لقب «الشاعر السياسي»، خلط بين تحريض العرب على تجاوز تخلفهم الحضاري، وهذا من حقه إذا فعله، وبين تحريض آخر هو تحريض كل الآخرين على العرب، وتبيان الضعف البنيوي في التكوين العربي وعدم قدرة العرب، بنظره، على الشفاء منه، وهو ما لم يجلأ إليه أحد من الشعراء العرب يوماً، فالشاعر عادة هو الذي يستثير النخوة والمروءة في شعبه، وليس الشاعر هو الذي يحمل على مقومات شعبه ويردّد خطاباً شعوبياً قديماً معروفاً من نوع الخطاب الذي أعاد نزار إنتاجه في شعره السياسي. الشاعر نزار قباني سيرته الذاتية. وإذا انتقلنا من النظري إلى العملي، وقمنا بمقارنة سريعة بين «تحريض» مطلوب، و«تحريض» آخر منكر، ذكرنا من نوع الأول بيتاً للشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب يقول فيه:
أكاد أؤمن من شكٍّ ومن رَيبِ
هذي الملايينُ ليست أمة العربِ
أما التحريض الآخر الذي يدل على ضلال البوصلة وافتقاد صاحبها إلى الوجدان الوطني أو القومي السليم، فهذه أمثلة منه مستقاة من ديوان «قصائد مغضوب عليها»:
من عهد فرعون إلى أيامنا
هناك دوماً حاكم بأمره
وأمة تبول فوق نفسها كالماشية!