الحمد لله الحليم التواب، ( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [غافر:3]، أحمده سبحانه وأشكره، كتب العزَّ لمن أطاعه واتقاه، وقضى بالذل والهوان على من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الواحد القهار، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد. أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وعظموه تعالى في النفوس، وأجلوه في القلوب، فإن حقه سبحانه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. ألا وإن من دلائل صدق الإيمان شكرَ الله عز وجل على الدوام، شكراً تلهج به الألسن، وتصدقه الجوارح والأعمال بالاستقامة على نهج الحق، وسلوك سبيل النجاة، والبعدِ عن أسباب الشر والغواية، والمعصية والضلالة، فإن أسوأ ما تقابل به نعم الله تعالى معصيته، والإعراض عن طاعته. فلتحذروا عباد الله المعاصي والذنوب، فإنها شؤمٌ وبلاءٌ، وتمردٌ على المنعم جل وعلا، تورث الذل والمهانة، والخزي والندامة، وتكسب صاحبها قسوةً في القلب، ووحشةً في النفس، ويهون بسببها على الرب، وترتفع مهابته من الخلق ( ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18].
《غافر الذنبِ وقابل التوبِ شديد العقاب》 - Youtube
لمشاهدة الصورة بحجمها الأصلي اضغط هنا
جودة الطباعة - ألوان جودة الطباعة - أسود ملف نصّي
غافر الذنب وقابل التوب
قال الله تعالى:
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
( غافر: 3)
—
أي غافر الذنب للمذنبين, وقابل التوب من التائبين, شديد العقاب على من تجرأ على الذنوب, ولم يتب منها, وهو سبحانه وتعالى صاحب الإنعام والتفضل على عباده الطائعين, لا معبود تصلح العبادة له سواه, إليه مصير جميع الخلائق يوم الحساب, فيجازي كلا بما يستحق. التفسير الميسر
بالضغط على هذا الزر.. سيتم نسخ النص إلى الحافظة.. حيث يمكنك مشاركته من خلال استعمال الأمر ـ " لصق " ـ
وقفات حول آية: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب
ونلمح هنا إلى فضل الحكمة في دعوة الناس، وكيف يمكن تخلُّل قلوبهم بالموعظة الحسنة المؤثرة، متشوفين خيرًا في هداهم، ومستشرفين تقواهم، فدوافع الخير في النفس كثيرة غالبة على نوازع الشر فيها. بقي توفيقه تعالى لمن يُحسن قرع باب عاص بإحسان؛ لينال ظفرًا به نيلًا لفوز ورغبة لتوفيق. ومجيء صفاته تعالى متعددة في هذه الآية مسبوقة بذكره اسمه الكريم (الله) علمًا عليه تعالى، ومنه نفيد تبعية الصفات للموصوف، وسبقه عليها؛ إمعانًا في تأكيد أنه بها موصوف وحده سبحانه؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22]. ونعته تعالى نفسه بأنه غافر الذنب موجبٌ للمرء حياءً منه كما قلت، دافع إلى الإقلاع عن الذنوب والآثام، وشكره لذلكم فضل واجب.
اعراب سورة غافر الأية 3
على أنه تعالى قد وصف ذاته الكريمة بأنه غافر، فدلَّ على أن حمده لنعت كهذا يجعل العبد مطمئنًّا إلى رب رحيم غافر الذنب، وهو وضع يشحذ هِمم المكلومين بجروح المعاصي أن يفرُّوا إلى الله؛ لأنه قال: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولةً). ودلالة اسم الفاعل من (غافر) تملأ الكون الفسيح مغفرةً؛ لأنها تحمل بين جنباتها إمطارًا للناس بالمغفرة رحمة بهم وفضلًا، وهكذا ليعلم الناس أن ربهم الحق يعاملهم بلُطفه ورحمته وعدله، وله عباد ضعفاء: ﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: 57]، فهم بين رجاء لرحمته وخوفٍ مِن نِقمته، لكنهم مستمسكون بوعده الصدق الكريم: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25]. والآية كلها ثناء على ذي الجلال، ومنه نفيد مدحًا واجبًا لله شكرًا لإنعامه؛ لأنه المنعم لكل نعمة، وحمدًا لامتنانه؛ لأنه ذو المن بكل مِنَّةٍ، وقد كان من سير المؤمنين المدح لمولاهم ووفير الثناء على بارئهم؛ لأنه اتصف بصفات الكمال، وتسمَّى بأسماء الجلال.
《غافر الذنبِ وقابل التوبِ شديد العقاب》 - YouTube
فإلى متى نظل يا عباد الله غافلين أو متغافلين عما يجب علينا لله تعالى من طاعةٍ واستقامةٍ على نهج الحق والهدى، وبعدٍ عن مزالق الشيطان، وسبل الغواية والضلالة، فإنه ما يصيب الناس من مصائب عامة أو خاصة إلا بسبب المعاصي، كما قال عز وجل: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) [الشورى:30]. وما أصاب أمة الإسلام في أعقاب الزمن من ضعف وهوان، حتى تكالب عليها الأعداء من كل جانب، وتحكموا في كثير من قضاياها، واستولوا على كثير من خيراتها ومقدراتها، وقاموا باحتلال بعض بلادها، وفي مقدمتها الأرض المباركة فلسطين ومسجدها الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين. كل ذلك لم يحصل إلا حين ضعف تمسك المسلمين بالإسلام، وابتعد كثير منهم عن حقيقة الدين الخالص. فاتقوا الله أمة الإسلام، ولتحذروا المعاصي والذنوب، ولتقبلوا على ربكم وطاعتِه، ولتستقيموا على شرعه ودينه، يكتب الله تعالى لكم العزَّ والتمكين في الدنيا، والفوزَ والنجاة يوم الدين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ، أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون ، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف:96-99].
في الآية 101 من سورة آل عمران نقرأ: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وفي الآية 175 من سورة النساء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}. 3- وفي الآيات 150 – 153 من سورة الأنعام يذكر الله تعالى مجموعة من الاوامر والنواهي، مثل: النهي عن الشرك، لزوم الاحسان للوالدين، عدم قتل الاولاد خشية الاملاق، عدم اقتراف الفواحش والمنكرات الظاهرة والباطنة، عدم قتل النفس المحترمة، عدم المساس بمال اليتيم الا لمصلحة اليتيم، ولزوم الوفاء بالكيل والميزان في التعامل الاقتصادي، والالتزام بالعدل في القول، والوفاء بعهد الله …، بعد كل هذه الاوامر والوصايا والنواهي الهامة يقول تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. 4- وفي آيات من سورة المائدة نقرأ بأنّ من شروط الهداية الى الصراط المستقيم اتباع رضوان الله تعالى، فمن يبتغي رضا عباد الله دون رضوان الله سبحانه لا يتوقع الهداية الى الصراط المستقيم.
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ت: العقل) (ط. الرشد) - المكتبة الوقفية للكتب المصورة Pdf
– وعن سيد المرسلين نبينا الأعظم، صلى الله عليه وآله، يأمره الله تعالى بأنْ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فما هو هذا الصراط الذي نحتاج – جميعاً – الى هداية الله لكي نسير عليه، وقد تكرر الحديث عنه في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة؟
بالتدبر في آيات (الصراط المستقيم) نستلهم البصائر التالية:
1- في عدد من الآيات يشير الله تعالى، وأيضاً انبياؤه ورسله الى أن الصراط المستقيم هو عبادة الله. لنقرأ هذه الآيات معاً:
– يقول الله سبحانه: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. (يس:61). نبذة عن كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية - الإسلام سؤال وجواب. – وعن لسان النبي عيسى عليه السلام يقول:
– {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. (آل عمران:51). – {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم:36). – {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. (الزخرف:64). في آيات من سورة المائدة نقرأ بأنّ من شروط الهداية الى الصراط المستقيم اتباع رضوان الله تعالى
2- إنَّ من شروط الهداية الى الصراط المستقيم، أي الى عبادة الله تعالى هو الاعتصام بالله (ويقابل الاعتصام بالله اللجوء الى اعداء الله والى اولياء الشيطان).
بيان معنى: (الصراط المستقيم)
الحمد لله. كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله سنعرض له في عدة نقاط أخذًا من دراسة الشيخ "ناصر العقل" له، وتحقيقه للكتاب هو أفضل تحقيق له، وهو مطبوع. وقد عرض الشيخ "العقل" الكتاب عرضًا وافيًا في مقدمة تحقيقه (1/ 34- 68)، وسنأخذ أهم النقاط التي ذكرها، فمن ذلك:
1- يتضح للقارئ من عنوان الكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" أن الموضوع الرئيس للكتاب التنبيه على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وأصوله، وهي: النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمجانبة هديهم على العموم، وأعيادهم على الخصوص، وبيان حكمة ذلك، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم ونحوهم، وأصل هذه المسألة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي السلف الصالح، واستقراء الآثار في ذلك. بيان معنى: (الصراط المستقيم). 2- وكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" بجملته يعتبر دراسة تفصيلية فريدة لهذا الموضوع المهم والخطير في حياة المسلمين؛ فإن المؤلف رحمه الله استوفى مسألة النهي عن مشابهة الكفار، من أصولها وفروعها، وأدلتها العقلية والنقلية، وما ورد فيها من آثار ومواقف عن سلف الأمة، بأسلوب علمي رصين، يشبع القارئ ويجعله يشعر أنه أمام قضية واضحة المعالم، بينة المسالك، جلية الدليل والحكم، فلا يخرج من مسألة بحثها المؤلف إلا وقد فهمها، واقتنع بأدلتها، وما توصل فيها من حكم.
نبذة عن كتاب &Quot;اقتضاء الصراط المستقيم&Quot; لابن تيمية - الإسلام سؤال وجواب
3- أن هذه القاعدة التي أصَّلها المؤلف، رغم أنها من المقررات الظاهرة عند السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وأن الصحابة والتابعين وتابعيهم، يحذرون الأمة من التهاون بها، والوقوع فيما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مشابهة الكفار والأعاجم ونحوهم، وبرغم وضوح أدلة هذا الأصل في الكتاب والسنة، وتحذير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته من الوقوع في ذلك؛ رغم هذا كله: كاد هذا الأصل العظيم أن يمَّحي من أذهان أكثر المسلمين، بعد القرون الثلاثة الفاضلة، فوقعوا في المحذور، وأخذوا بسنن الأمم حذو القذة بالقذة. فمما وقعوا فيه- على سبيل المثال- ا لبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، وهذه مسألة واضحة في السنة، فقد حذر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته من الوقوع فيها أشد التحذير- كما سيأتي بيانه أثناء الكتاب- ومع ذلك وقعت فيه طوائف من الأمة. فجاء المؤلف رحمه الله فجلَّى هذا الأمر وبيَّنه، وأعلنه على الملأ بلسانه وقلمه، فكتب وناظر وأمر ونهى، وأثمرت دعوته بحمد الله. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ت: العقل) (ط. الرشد) - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF. وكتابه هذا جزء مما قام به في بيان الحق في ذلك. 4- نبه المؤلف على أصلين من أصول الدين، لا غنى للمسلم عن فهمها، ولكل واحد منهما علاقة بالآخر.
وللأسف فإن الإسلام الذي بين أيدينا اليوم، لا يمتّ للإسلام الحقيقي بصلة، فالأول دين أرسله إله شبه الجزيرة العربية أو الشرق الأوسط، لسكان المنطقة، وتوقف عند القرن السابع الميلادي، وطلب من متبعيه أن يتوقفوا معه، فأصبحوا خارج التاريخ، بينما الثاني هو دين عالمي تراكمت فيه القيم تدريجياً منذ نوح إلى محمد، فوضع أسساً تتوافق مع كل أهل الأرض حتى قيام الساعة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3)، وترك للاجتهاد الإنساني أن يتحرك ضمن حدود تلك الأسس، وضمن ما يتوافق مع الأرضية المعرفية لكل عصر.