الثالثة: قوله تعالى: ( كما كتب على الذين من قبلكم) التشبيه في الآية تشبيه في أصل فَرْض ماهية الصوم، لا في الكيفيات، والتشبيه يُكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الإحالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيه مقاصد ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم. الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام. عرض وقفة أسرار بلاغية | تدارس القرآن الكريم. الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة، حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة. والمراد بـ ( الذين من قبلكم) من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع، وهم اليهود؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون، ويعرفون ظاهر شؤونهم، وكانوا على اختلاط بهم في المدينة، وكان لهم صوم فرضه الله عليهم، أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة، فكانوا يتبعون صوم اليهود، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "قالوا: يا رسول الله!
يأيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام
9
الرابعة: في قوله عز وجل: { كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فيه تعظيم وبيان لأهمية شعيرة الصيام، فإن الله
عز وجل لا يشرع شيئاً لجميع الأنبياء والرسل والأمم السابقة إلا ويكون عظيماً
ومهماً؛ ولهذا اتفق جميع الرسل والأنبياء على الدين العام وإن اختلفت تفاصيل
الشرائع وفي الصحيحين: ( الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم
شتى، ودينهم واحد). 10
ومن هذا الدين العام الصوم؛ فيشعر المسلم أنه يؤدي شعيرة عظيمة اتفق عليها جميع
الأنبياء. الخامسة: أن المسلم إذا علم أنه لم يُخصَّ بهذه الشعيرة وحده وأن الأنبياء كلهم
صاموا، والأمم من قبله صامت كان ذلك عزاءً وتسلية له، وتقوية لقلبه على الصيام الذي
أمر به كما أمر به من كان قبله من الأمم. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ. السادسة: في قوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
الصيام الشرعي معروف، لكنه في هذه الآية غير محدد بزمن ولا عدد؛ ولهذا نقل عن معاذ
وقتادة وغيرهما من السلف: أن الصيام كان في أول الإسلام مطلقاً غير محدد. وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تقدم أنهم كانوا قبل الإسلام يصومون عاشوراء، فلعل
ذلك كان المرحلة الأولى من الصيام. السابعة: التدرج في التشريع. وهذا من خصائص شريعة الإسلام في المأمورات كالصلاة والمنهيات كالخمر، فالصلاة كانت
في بادئ الأمر ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر وبقيت في السفر.
اية يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
وتنتقل الآيات للحديث عن هذا الشهر العظيم؛ شهر رمضان، فهو شهر الصيام. وعرفه الله بأنه شهر القرآن، وهذا أمر عجيب، وهي لفتة مقصودة، فليس الأمر مجرد إخبار بأن القرآن أُنزِل في رمضان، بل ليكون للقرآن في حياة المسلم شأن خاص في رمضان، فهو هدى للناس جميعا، وبينات من الهدى والفرقان الذي يميز المسلم به بين الحق والباطل والهدى والضلال، فلا حيرة ولا تردد، بل صراط مستقيم مرسومة ملامحه، واضحة مقاصده. ويخبر سبحانه أن من شهد هذا الشهر وعلم بدخوله وحضره فعليه الصيام. كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين. ومرة أخرى يؤكد على مبدأ الرخصة حاليْ المرض والسفر، فالله يريد بنا اليسر لا العسر. ولا يخطرن على بال أحدنا أن الصيام نفسه عسر، فكيف يريده الله لنا؟! هنا نتذكر أن فيه مشقة، وإن كان ظاهره عسرا فحقيقته غير ذلك، لأنه صبر ولجم للنفس عن شهواتها وبناء لإرادة لطالما رضخت لنفس داعية إلى الدعة والسكون والراحة، فيريد الله منه أن يملك نفسه لا أن تملكه، ويريد للروح أن تنعتق من سلطان الشهوات المعتنية بالجسد على حساب الروح. ونتذكر دائما أننا مكرمون بالروح لا بالجسد، فلا ينظر الله تعالى إلى أجسادنا ولا إلى صورنا، ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا، كما بين صلى الله عليه وسلم.
يايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام
آيات بينات في شأن ركن من أركان الإسلام العظيم، ليكون الصيام وسيلة لارتقاء صاحبه، فهو أبعد عبادة عن الرياء، فلو شاء لخلا بنفسه وأفطر، ولكن إمساكه كل هذه المدة علامة واضحة على خشيته لله وحبه له، وهذا سبب آخر أن يجزي الله به فهو علامة تقوى حقيقية لله تعالى. رزقنا الله طاعته، وأن يكون رمضان هذا العام متميزا على صعيد الفرد والأمة، لعلنا نغير ما بأنفسنا، ليغير الله حالنا كلها إلى الأفضل، إنه عليّ قدير.
أ. د. محمد خازر المجالي
كتب الله تعالى الصيام على الأمم كلها، لأنه قيمة روحية عليا يحتاجها الإنسان في مراعاته لكيانه في رحلته هذه إلى الله تعالى، وفي حياته التي هي مرحلة مؤقتة، ينتقل بعدها إلى الدار الحقيقية، حيث النعيم أو الجحيم. ولعل آكد ما نذكره عن الصيام، أنه دورة في الصبر وعتق النفس وقوة الإرادة وارتقاء الروح؛ فهو خروج عن روتين الحياة ليكتشف أحدنا قدراته وتعلو همته ويسمو هدفه، وينظر في نفسه من جديد أين هو من الله تعالى وحقوقه. يأيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام. إذ حين ترتقي الروح بالإنسان، تنجلي الغشاوة، ويرى ببصيرته لا بمجرد بصره. وحينها يدرك حقائق كثير من الأشياء، ويقترب من ربه أكثر. ولعله أن يكون من المحسنين الذين راقبوا الله في حياتهم، ولنقل إنه من الذين يعيشون في معية الله تعالى. هو الصيام الذي جعل الله الجزاء عليه من اختصاصه هو، لأنه نوع من الصبر، والصبر عبادة قلبية لا يعلم أجرها إلا الله تعالى، ولا يعلم كنهها إلا الله؛ إنه مشاعر ويقين بالله تعالى، لا يطلع عليها إلا هو سبحانه. نداء للمؤمنين بأن الله فرض الصيام عليهم. ولسنا وحدنا في التكليف، فقد سبقتنا أمم كثيرة. والغاية هي الوصول للتقوى، حيث ارتباط النفس بخالقها وحده، وحبه، وخشية عذابه.
وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه و سلم: ( بني
الإسلام على خمس, شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إلية سبيلاً) 1,
وفي حديث آخر: عن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله أخبرني عما فرض الله علي من الصيام؟ قال: ( شهر
رمضان), قال: هل علي غيره؟ قال: ( لا: إلا أن
تطوع). 2
واجتمعت الأمة على وجوب صيام شهر رمضان، وأنه أحد أركان الإسلام المعلومة من الدين
بالضرورة وأن من أنكره كافر مرتد عن الإسلام, وكانت فريضته يوم الاثنين لليلتين
خلتا من شعبان من السنة الثانية من الهجرة.