الله قادر أن يُعذّب مَن عصاه عند أول ذنب وعند أول جُرْم، وعند أول معصية، ولو فعل الله ذلك ما ترك على ظهر الأرض من دابة؛ لأن كل العباد خطّاؤون كل العباد مذنبون, قال -سبحانه-: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا)[فاطر:45[؛ يمهل ويمهل، ويمهل حتى من كفر به وحارب دينه؛ يمهلهم لعلهم يتوبون أو يذَّكَرون. إن الله -تعالى- أخبرنا أن رحمته تسبق غضبه وأن له مئة رحمة, قال -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ "(صحيح مسلم). وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابِهِ فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي غَلَبَتْ غَضَبِي ".
سعة رحمة الله عليه
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
من رحمته بعباده أنه سهَّل عليهم العبادة، سهل علينا التكاليف الشرعية، ما جعل علينا في الدين من حرج. فرض الصلوات خمسين وخفَّفها إلى خمس، أوجب علينا الصيام شهرًا واحدًا، والمريض والمعذور بإمكانه تأخيره إلى وقت آخر. أوجب علينا الحج إلى بيته المحرم ولكن للمستطيع، أوجب الزكاة على أهل الأموال وبعد مضيِّ الحول، ومن ليس له مال ليس عليه زكاة. سعة رحمة الله - ملتقى الخطباء. ولو شاء الله لبقيت الصلوات خمسين، ولو شاء لأمرنا بالصيام طيلة العام، والحج كل سنة، ولكنه رحيم بعباده. غفر لزانية سقت كلبًا كاد يموت من العطش، وأدخل رجلًا الجنة بسبب غصن شجرة أزاحه عن طريق الناس. أمرنا بالدعاء ليستجيب لنا، وحثنا على الاستغفار ليغفر لنا، ودعانا إلى التوبة ليتوب علينا. قال أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: ((قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى: يا بنَ آدمَ، إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا بنَ آدمَ، لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولا أبالي، يا بنَ آدمَ، إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئً،ا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً))؛ صحيح الترمذي للألباني، صحيح. يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار حتى يتوب مسيءُ الليل، إلى أن تطلع الشمس من مغربها.