يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) قوله تعالى: يوم يفر المرء من أخيه أي يهرب ، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه; أي من موالاة أخيه ومكالمته; لأنه لا يتفرغ لذلك ، لاشتغاله بنفسه; كما قال بعده: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه ، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا; كما قال: يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا. وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم ، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى. وصاحبته أي زوجته وبنيه أي أولاده. وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمه ، وإبراهيم - عليه السلام - من أبيه ، ونوح - عليه السلام - من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من أبيه: إبراهيم ، وأول من يفر من ابنه نوح; وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ.
يوم يفر المرء من اخيه وصاحبته وبنيه
{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} هذه هي خاتمة المتاع. وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل ، والتدبير الشامل ، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان. والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ.. وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه: مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به:( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه).. أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقا ، وتقطع تلك الوشائج تقطيعا.. فلكل نفسه وشأنه ، ولديه الكفاية من الهم الخاص به ، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين ، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك: ( وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة).. فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة ، راجية في ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها.. أو هي قد عرفت مصيرها ، وتبين لها مكانها ، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل.
يوم يفر المرء من اخيه و امه و ابيه
وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً لإحضار صورة الهول في نفس السامع.
يوم يفر المرء من اخيه سورة المعارج
الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [يا عائشة، الأم أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض]. "" خرجه الترمذي. عن ابن عباس"": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحشرون حفاة عراة غرلا] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [يا فلانة] {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}. قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد {يعنيه} بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه؛ قال خفاف: سيعنيك حرب بني مالك ** عن الفحش والجهل في المحفل قوله تعالى {وجوه يومئذ مسفرة} أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. {ضاحكة} أي مسرورة فرحة. {مستبشرة}: أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني {مسفرة} من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل؛ لما روي في الحديث: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. {ووجوه يومئذ عليها غبرة} أي غبار ودخان {ترهقها} أي تغشاها {قترة} أي كسوف وسواد.
يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله تعالى لنا ولكم دوام العز في طاعته، ويجنبنا وإياكم الذل في معصيته، وأن يرضى عنا وعنكم رضاءً لا سخط بعده، مع تمام العافية والاستقامة، وسلامة الدنيا والآخرة. أما بعد:
فهذه الآية تحدثنا عن مشهد عصيب من مشاهد يوم القيامة، حيث يفر المرء من الجميع ليبحث عن نجاته من عذاب الله تعالى، ويتأكد هذا الفرار من كل من يخشى أن يتعلق به ويطالبه بحقٍّ من الحقوق التي كانت مترتبة عليه. وفي هذه الآية الكريمة تدرَّج ذكر الفرار من الأدنى إلى الأعلى، فقد قدم ذكر الأخ على الأم والأب، حيث بدأ بالأدنى ثم ارتقى إلى الأعلى؛ لأن الأم والأب أكثر التصاقاً وقرباً إلى قلب الولد من أخيه، ولأن حقَّهما عليه أكثر من حقِّ أخيه. وكذلك يفرُّ من زوجته وبنيه، وهو كذلك ارتقاء من الأم والأب إلى الزوجة والبنين، لأن هوى الإنسان مرتبط بزوجته التي يحبها، أشد من ارتباط عاطفته بأمه وأبيه، وارتباط عاطفته ببنيه أشد ارتباطاً من عاطفته بزوجته. فالعبد يوم القيامة إذا كان يفرُّ من أخيه ثم من أمه وأبيه ثم من زوجته وبنيه، وذلك لما عليه من حقوق، فهو من باب أولى وأولى يفرُّ ممن هو أبعد قرابة من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
يوم يفر المرء من أخيه
ولكن: يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس، فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب، فقد نجد من يكون مرتبطاً بأخيه أكثر من أيّ إنسان الآخر، ونجد ممن لا يقرّب على علاقته باُمّه شيء، وثمّة من تكون زوجته رمز حياته، أو مَنْ يفضل ابنه حتى على نفسه... الخ. وثمّة عوامل اُخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه وزوجته وبنيه، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أيّ منهم على الآخر من جميع الجهات، وعليه فلا يمكن القطع بأنّ التسلسل الوارد في الآية قد جاء على أثر أهمية وشدّة العلاقة. ولكن... لِمَ الفرار؟... (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه). "يغنيه": كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حوادث مذهلة، تأخذه كاملاً، فكراً وقلباً. وقد سئل رسول اللّه (ص) عن الحميم، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال: "ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحدٌ أحداً: عند الميزان، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف؟... وعند الصراط، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟... وعند الصحف، حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟... فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، ذلك قوله تعالى: (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه) ( 2).
تفسير القرطبي قوله تعالى { فإذا جاءت الصاخة} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس). وقال الشاعر: يصيخ للنبأة أسماعه ** إصاخة المنشد للمنشد قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز: يا جارتي هل لك أن تجالدي ** جلادة كالصك بالجلامد ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان: أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا وقال آخر: أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم ** فهل سمعتم بسر يورث الصمما لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.