إلى أن يقول في التحذير من هوى النفس:
" فان أمارتي بالسوء ما اتعظـــت
من جهلها بنذير الشيب والهرم "
ثم وأن يقول في الشفاعة والمناجاة:
" مالي ما ألوذ بـــه يا أكرم الرسـل
سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بـي
إذا الكريم تحلى باسم منتقــــــم"
ولئن جارى البوصيري في جزء من شعره كثيرا من شعر معاصريه في توظيف اللفظ المولد، فإن له تجارب عديدة في الأهاجي، إلا أنه مال بعدئذ إلى التنسك وحياة الزهد، واتجه إلى شعر المديح النبوي. وآثار البوصيري شعرية ونثرية، فقد ترك عددا من القصائد، والأشعار ضمنها ديوانه الشعري، وقصيدته الشهيرة (البردة) و(القصيدة المضرية في مدح خير البرية) والقصيدة (الخمرية) وقصيدة (ذخر المعاذ) ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان (المخرج المردود على النصارى واليهود) و(تهذيب الألفاظ العامية)، ووفاته بالإسكندرية سنة (695هـ – 1295م).
قصيده نهج البرده للرسول
لنتوقف عند قول شوقي:
حتّى بلغتَ سماءً لا يُطارُ لها ….. على جناحٍ ولا يُسعى على قدمِ
الإبداع في هذا البيت جاء كتابة أولًا حين بنى شوقي الفعل "طار" للمجهول، فأصبح يُطار، والفعل "يسعى" يُسعى، بما يفيد شمول الاستحالة على أيٍّ كان في الوصول إلى المرتبة العلية التي بلغها رسولنا الكريم ﷺ. وجاء السنباطي ليلحّن الأغنية على مقام "الهزام سيكا" المستخدَم عادة في الأغاني الدّينية، وقد اختار السنباطي من هذا المقام تفريعة "راحة الأرواح" كأنّما ليصل بالمستمع مع صوت أم كلثوم إلى مرحلة من الوجد لم يسبقه إليها أحد من قبل. بحث قصير عن بردة البوصيري - ملزمتي. والمعروف عن السنباطي أنّه لا يترك جملة موسيقية في حالها، لا بدّ أن يُدخل مقامًا جانبيًّا ولو على سبيل "العُربة" وهذا ما يجعل أم كلثوم تحلّق وهي تنطق الحروف، فنشعر بنشوة الوجد مع كلّ كلمة وتلوّنها فتكاد تطير. بل طارت أم كلثوم حقًّا في تلك الأغنية وبلغت السّماء، وحوّلت مقام "راحة الأرواح" إلى تحليق الأرواح، وهو ما أدركه جمهور تلك الحفلة الذي طار به الطّرب حدّ اختلاط الواقع بالخيال. لكنّ الإعجاز لم يكن هنا فقط بل في مقدرة السنباطي لحنًا وأم كلثوم أداءً على جعل حروف العربية تحمل قدرة تصويرية يكاد السّامع يراها رؤية العين.
لحن السنباطي روح الأغنية
لا شكّ أنّ الأغنية لن تكون بهذه الرّوعة لو لم تكن من ألحان السنباطي، الموسيقار العبقري الذي كان لاختياراته الشّعرية السّبق في مجال الأغنية الدّينية. يقول "صميم الشريف" في كتابه عن السنباطي، إنّ السنباطي في إلحاحه على تلحين الشّوقيات الدّينية، كان يدعو النّاس إلى النّضال الحقّ ضدّ كلّ ما هو باطل، وهو لم يلجأ إلى ذلك إلّا عندما امتدّت الرّقابة البريطانية لتشمل نصوص الأغاني أيضًا بعد قصيدتي "إلام الخلف" و "السودان". في رباعيات الخيّام اختزل السنباطي بالمطلع الموسيقي "الهادئ الإيقاع" هدف القصيدة الصّوفي، وأوحى للمستمع من خلال لحن النّاي المُحلّق في أجواء سحرية علوية تقرّبه من الذّات الإلهية، بينما أكّد إيقاع الدّفوف والمزاهر، واللحن المُقطّع على الإيقاع والمرافق له أنّه ما زال على الأرض. قصة قصيدة – نهج البردة – e3arabi – إي عربي. هذا الأسلوب الذي اتّبعه السنباطي في التّلحين كان جديدًا في الموسيقى العربية، وقد استغرق تلحينه لها سنة كاملة. لكن تبقى "نهج البردة" نسيج وحدها من حيث اللحن والأداء والتّأثير. المصدر: الجزيرة مباشر