غدتِ الآن تُسفرُ له عن وجهِ الصداقة، وتتقربُ إليه بالودِّ والحنان..
حتى خرجَ إلى شاطئِ السلامةِ وشاهد لطفَ ربه الرحيم تحت شجرةِ اليقطين: ( وأنبتنا عليه شجرةً من يقطين)..
إنّه مشهدٌ عظيمٌ أن تتحولَ وسائلُ التخويفِ، والرعبِ والفزعِ إلى وسائلِ أنسٍ وآمانٍ وهدوءٍ وتطمين..! فالحوتُ الملتقم: هو الذي صارَ بطنُهُ المكانَ الآمن، والبحرُ الهائج المظلم: هو الذي أصبح ميدانَ المناجـاةِ ومسـرحَ الأنس..! وذلك لأن التوحيد إذا استقر زال كلُ خطر..
التوحيد الخالص إذا وقرَ اندفع كلُ ضرر..
الإيمانُ الراسخ إذا تواجد رحل كلُ بلاء..
بشاشةُ الإيمان إذا هيمنت على حياة العبد وأصبحت لباسة ذهب عنه كلُ كربٍ وراح عنه كل خوفٍ وقلقٍ وضيقٍ ورعب..
( لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)
إنّ لهذه الكلمة فضائل وثمار ولعل من أهمها وأبرزها هي إستجابة الدعاء..! اسرار وعجائب سلام قولا من رب رحيم. فهل تريد ان يستجيب الله لك دعاءك..! اتحدثُ إليك بصدق وأكلمك عن جد..! هل تحب ان تدعو الله فيستجيب لك ؟
هل ترجو صلاحاً لأولادك وذريّتك ؟
هل تريد صحةً في جسدك وعافيةً بدنك ؟
هل تريد رزقاً وفيراً ؟
هل تريد ان يدفع الله عنك كيد اعدائك ؟
هل ان يُجيرك الله من خزي الدنيا وعذابِ الآخرة ؟
استفتح أيّ دعاءٍ وأبدأ بأي دعاءٍ ترجوا إجابته بــــ:
( لا اله الا انت سبحانك انّي كنت من الظالمين)
مع الأخذ بشروطِ الدعاء ثم ادعوا بما تريد وسيستجيب الله لك دعاءك.
اسرار وعجائب سلام قولا من رب رحيم
هذا الضمان من البشير النذير وممّن لاينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم القائل:
" دعوةُ ذي النون التي دعا بها وهو في بطن الحوت:( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيءٍ قط إلاّ إستجابَ الله له "..
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سراً وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين. اقــول ماسمهتم واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب انّه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
أمّـا بعـد معاشر الصالحين:
ما اروع هذا الهتاف! وما أجمل هذه الكلمات! لننظر بنورِ هذه المناجاةِ إلى أنفسنا..! فنحنُ في وضعٍ مخيفٍ ومرعب وقلق ومضطرب..! فليلُنا الذي يُخيّمُ على أمتنا إذا نظرنا إليه بنظرِ الغفلة يبدو مظلماً مخيفاً بل وربما أحلكُ ظلاماً وعتامةً من الليلِ الذي كان فيه سيدنا يونس عليه السلام. أمّا بحرنا: فهو هذا العالم الذي نعيشُ فيه، فكلُ موجةٍ من أمواجه تحملُ ألواناً من الفتنِ وأنواعاً من المكر؛ والخداع ( قتلٌ وتخريبٌ وتزويرٌ وخطفٌ، وكفرٌ وعمالةٌ وخيانةٌ وضعفٌ وغير ذلك ممّا نعلمُ وممّا لا نعلم، وممّا نبصرُ وممّا لا نبصر). فضل لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين. إذاً فهو بحرٌ مرعبٌ ورهيب.
سحابة
خطبــة جمعــة بعنـــوان
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
أمّـا بعـد احبتي الكــرام:
ومع كلمةٍ جديدةٍ ضمن سلسلةِ الأذكار المباركة
اقف معكم في هذا اليوم المبارك..
وممّا لا شك فيه أنّنا نعيش في هذه الايام وفي هذا الزمان في غمومٍ وهموم، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد..
توالت علينا الغمومُ والهموم، وتتابعت علينا الشدائدُ والكربات، والضوائق والملمّات.! كلُ الأحداث من حولنا تُشيرُ إلى واقعِ الهمّ والغمّ. سحابة. ولأننا بحاجةٍ ماسّةٍ في هذه الأيام لِما يَدفعُ عنّا الغموم والهموم ويَرفعُ عنّا الشدائد والكربات والملمّات فإنّ كلمة اليوم ضمن سلسلةِ الأذكار تُزيلُ الهمّ والغمّ وترفعُ الكرب والضيق عن صاحبها..! وردت هذه الكلمة عبر قصةٍ قرآنيةٍ حكاها لنا القرآنُ الكريم عن نبيٍُّ كريم فقال سبحانه وتعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87- 88].
لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين - منبع الحلول
ليلة بدء نزول القرآن على قلب محمد ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي حياة البشرية جميعاً. العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ؟)
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحديث تكاد تزف وتنير... بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر) ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى:
( تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود: ( سلام هي حتى مطلع الفجر)
واسمها (ليلة القدر)... قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم. حدث القرآن والوحي والرسالة. لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين. وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود. والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري: ( وما أدراك ما ليلة القدر ؟). فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وشريعة وآداب.
ولا يستطيع أن يُنقذَه من تلك الحالةِ إلاّ الذي تنفُذُ قدرتُهُ في الحوت..! وتُهيمنُ على البحر..! وتستولي على الليلِ وجوِ السماء..! في وقتٍ قد إتفق على الإنقضاضِ عليه والخلاصِ منه كُلاً من: الليلِ الحائك..! والبحرُ الهائج..! والحوت الهائل..! فلا يُنجيه سبب، ولا يُخلصُهُ أحد، ولا يوصله إلى ساحلِ السلامةِ بأمان...! إلاّ من ؟! إلاّ من بيده مقاليدُ الليل، وزمامُ البحرِ والحوتِ معـاً. ولهــذا لمّا رأى عليه السلام بعينِ اليقين وهو في تلك الظلمات أنّه لا ملجأ له إلاّ الملاذ إلى كنفِ مسببِ الأسباب..! انكشف له سرُ الأُحدية من خلالِ نورِ التوحيد الساطع حتى سَخّرت له تلك المناجاة الخالصة الليلُ والبحرُ والحوتُ معاً. لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين - منبع الحلول. بل تحول له بنورِ التوحيد الخالص: بطنُ الحوتِ إلى ما يشبهُ بطنُ الأمِ رعايةً وعنايةً وحنان..! وأصبحَ ذلك البحرُ الهائج بالأمواجِ المتلاطمة محلُ سكنٍ وسكينةٍ وأنانٍ واستقرار..! أمّا القمرُ فقد كشف عن وجهه المنير فانقشعتِ الغيوم وانجلتِ الظلمةُ وانزاحتِ الغمّة..
وهكذا غدت تلك المخلوقات التي كانت ترعبه من كلِ صوبٍ وتُضيّق عليه من كل مكان..! غدت تلك المخلوقات التي كانت قد اتفقت من قبل على الإنقضاضِ عليه والقضاءِ عليه..!