إذن ماذا يفعل، يا هذا، بعد أن صنع لمواطنيه من الفسيخ شربات؟! هكذا يتوهم ذاك السلطوي الذي يرفع رأسه لأعلى، وإن استطاع أن يزحزح السماء عن مكانها لفعل ليرفع رأسه أعلى وأعلى، كبْرًا وغطرسة. حول صحة مقولة لو رأيت أحد إخواني ولحيته تقطر خمرًا لقلت ربما سكبت عليه - الإسلام سؤال وجواب. يمشي منتفخًا بعد أن أيقن، زورًا وبهتانًا، وبفعل غبائه هو، أو بصنيع حاشيته، أنه القائد الفذ والأوحد، وأنه قد صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوه، ولن يتسنى لمن سيجيء بعده، ولو بعد مئات السنين، هذا إن تخلى وتنحى عن كرسيه موتًا، أن يصنع ما صنع. غير أن خطورة السلطوي لا تنبع فقط منه هو شخصيًّا بل تنبع كذلك من الأحراش والحشائش الضارة التي تنبت في مستنقعه وتسمى بالحاشية التي تزين له سوء عمله وتحول سقطاته وأخطاءه بل وخطيئاته إلى بطولات، قلَّ، بل ندُر من يتمكن من القيام بها. ونظرًا إلى أن الحاشية تستفيد كما يحلو لها من هذا السلطوي الأعمى الذي لم يعد يرى في المرآة سوى إنجازاته المزيفة، فإنهم يحاولون أن يحنطوه في مكانه حتى يبقى ويبقى لهم ما يريدون حتى وإن اضطروا إلى استنساخ بديل له بعد موته، إنه يموت فوق منسأته ويوهمون الناس بأنه لا يزال حيًّا يُرْزق. وهكذا يحيا السلطوي وهمًا كبيرًا، هو أنه لو تخلى عن مكانه وقام من على كرسيه لتشم مقعدته الهواء وليترك الكرسي ليتنفس لثوان، فإن السماء سوف تقع على الأرض، وأن الكون سيتحول إلى أنقاض، وكيف لا وهو الرب الأعلى الذي يُمْسكُ السماء أن تقع على الأرض!
حول صحة مقولة لو رأيت أحد إخواني ولحيته تقطر خمرًا لقلت ربما سكبت عليه - الإسلام سؤال وجواب
وقال آخرون: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، عجَّل الله له الغرق مع ما أعدّ له من العذاب في الآخرة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة الجعفي، قال: كان بين كلمتي فرعون أربعون سنة، قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ثُوير، عن مجاهد، قال: مكث فرعون في قومه بعد ما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى أربعين سنة. قال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: فأخذه الله نكال الدنيا والآخرة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذَة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: الدنيا والآخرة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: عقوبة الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة. إسلام ويب - تفسير الطبري - تفسير سورة النازعات - القول في تأويل قوله تعالى " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى "- الجزء رقم24. وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به، والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رَزين ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: الأولى تكذيبه وعصيانه، والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، ثم قرأ: فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فهي الكلمة الآخرة.
إسلام ويب - تفسير الطبري - تفسير سورة النازعات - القول في تأويل قوله تعالى " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى "- الجزء رقم24
لقد تسلط فرعون ووصل إلى ما وصل إليه حتى قال أنا ربكم الأعلى، فماذا كانت نهايته؟ لقد بقى لغيره آية وعبرة، غير أن العجيب أن أحدًا من مريدي السلطة لم يستفد من النموذج الفرعوني، بل إن منهم من تعدى حدود هذا النموذج. لم يَعُد فرعون أيقونة التسلط في التاريخ البشري، بل جاء بعده ممن كانوا يحكمون البشر في العقود الأخيرة، وصنعوا ما لم يفكر فرعون في صنيعه، لكن الغفلة التي أدت بهم إلى هذه المحطة هى نفسها التي دفعت بهم إلى الجحيم، لقد ثارت شعوبهم عليهم بعد أن فاض الكيل بها، وبعد أن كنا نرى هؤلاء المتسلطين يرفعون أنوفهم الضخمة كبرًا إلى أعلى حل بهم الانكسار والذل وباتوا يقولون: ألا ليت ما جرى ما كان!
انا ربكم الاعلى - Youtube
هكذا يولد هذا السلطوي فقيرًا فقرًا مدقعًا، أبيض الأيدي من كل شيء " لا أقصد نظافة اليد ولكن أقصد أنه أبيض آخر حاجة ". لذا تتبلور بوصلته الشيطانية وتتجه عقاربها إلى قارة السلطة دولًا ودويلات، التي عبر امتطائه لظهر جوادها سيحقق ما لم يستطع الآخرون أن يحققوه من أحلام وأمنيات، على الرغم من امتلاكهم لكل مقومات النجاح في ذلك المجال. يعزف مقطوعته السلطوية منفردًا، مستخدمًا عصاه الثعبانية التي يسمح لها آخرون، يسامحهم الرب، بأن تفعل ما تريد. من هنا تهفو روح السلطوي إلى عرش السلطة وكرسيها المريح الذي يجلس عليه فيشم رائحة نعيم الجنة من بعيد. وما أن تستقر مقعدته الغليظة والثقيلة على جلد الكرسي الذي أُعِدَّ خصيصًا لهذا الغرض " محتويًا على أجود أنواع الغراء الذي لا أمل في فصْلِ أي مُلْتصقيْنِ به أبدًا". يجلس فوق الكرسي فتنغرس مقعدته في حَشْوهِ فيصبحان واحدًا، وبهذا لا يتمكن أحد من انتزاعه منه سوى واحد " ودائمًا ما يأتي متأخرًا على أمثال هؤلاء وهو عزرائيل الموت! " يصل السلطوي إلى السلطة / إلى ما كان يتمنى، بعد مروره على كل الطرق التي توصل إليها، ثم يقوم بتجميع حاشية تبني خيامها بالقرب منه، وتعيش حول حوض مائه العذب الرقراق وتظل مُلازِمةً له، مُلازَمةَ النقاط لحروفها، ما لزم الكرسي.
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} وهذا هو اسم الوادي المقدس الذي كان موسى(ع) يقف فيه في بداية الرسالة، وكانت المهمة الحاسمة الصعبة في انتظاره.