2- كما أنّ الرثاء هو الطريقة الوحيدة التي يمكن لها اختيارها في موضع كهذا؛ ذلك لأنّها لو قامت خطيبة لسارعوا إلى إسكاتها، ولو كلّمتهم بأيّ طريقة لواجهوها وأجابوها، لكنّها بكت ورثت فسمعوها، ووعَوا كلامها، وفهموه، دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على إسكاتها، وإلّا لقيل له: إنّها امرأة تبكي فقيدها، وهي ثكلى على قتلاها، فما تريد منها؟! 3- لقد احتوى المضمون الذي قدّمته عليها السلام في رثائها على تقريرٍ عن الحادثة بطريقة مبدعة، فلو أنّ شخصاً أراد أن يكتب تقريراً جنائيّاً عن الحادثة، لما استطاع أن يقول أكثر ممّا قالته العقيلة زينب عليها السلام؛ فقد عرّفت بالقتيل أنّه من أهل بيت النبوّة، وأشارت إلى مَن قتله، وكيفيّة قتله، والمصائب التي جرت عليه وعلى أهل بيته. قال الراوي: فوالله لا أنسى زينب بنت عليّ عليهما السلام وهي تندب الحسين، وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: "وا محمّداه، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى حمزة سيّد الشهداء. كربلاء تتوشح بالسواد استذكارا لوفاة السيدة زينب بنت الامام علي ومواكب عزاء بالصحن الحسيني الشريف (مصور). وا محمّداه، هذا حسين بالعراء، يسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، يا حزناه يا كرباه، اليوم مات جدّي رسول الله، يا أصحاب محمّداه، هؤلاء ذريّة المصطفى يساقون سَوق السبايا"(2).
السيده زينب في كربلاء الان
هناكَ أبطالٌ حقيقيونَ ابرَزَتْهُم الظروفُ الاستثنائِيَّةُ ، وهناك ابطالٌ اسطورِيُّونَ صَنَعَهُمْ الخَيالُ الانسانيُّ ، وهناكَ أَبطالٌ مُزَيَّفُونَ صًنَعَهُم الزَّيفُ الإنسانِيُّ ، اذ أَنَّهُم لم يكونوا أَبطالاً ولاعلاقةَ لَهُم بالبطولةِ من قريبٍ أَو بَعيدٍ ولكنَّ الزيفَ الانسانيَّ أَضفى عليهم صفاتٍ لايستحقونها. كإضفاءِ الانسانِ على الطغاةِ والمجرمين لقبَ الأَبطالِ. والبُطُولَةُ لها ميادينُ مختلِفَةٌ ، ومَجالاتٌ مُتَعَدِدَةٌ ، فهناك بطولَة في ميادينِ الصَّبرِ جَسَّدَها امير المؤمنينَ عليٌّ (ع) بقوله 🙁 فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا). السيده زينب في كربلاء كلية. فهو (ع) رأى أَن الصبرَ هو الاحجى اي: الموافق للعقل. وهذه بطولةٌ في ميدانِ الصَّبر ؛ لانَّ علياَ (ع) الممتلئ قوةً وشجاعةً يصبر رغم مرارةِ الصَّبرِ ، فهذهِ بُطُولَةٌ أَعظمُ من البطولةِ في ميدانِ الحَربِ وضرابِ السيوف وطعن الرماحِ. ونأتي الى ابطالِ كربلاءَ الذين جَسَّدوا البُطُولَةَ بكلِّ معانيها ، فكربلاءُ لها فصلان: فصلُ الشَّهادةِ والدماءِ الحمراءِ التي صبغتْ أَرضَ كربلاء. الامةُ حينما عاشتْ ظُروفَ القمعِ والقَهرِ والاستبداد برزَ الامامُ الحسينُ الرَّجُلُ الاستثنائيُّ الذي قالَ قولتَهُ وبّذّلَ مُهْجَتَهُ وقَدَّمَ كُلَّ مايملِكُ من اجل الله ، واستعادَةِ الأُمَّةِ لحريتِها وعِزَتِها ، وهكذا فعلَ ابو الفضلِ العباس (ع).
نعم، لقد ذكّرتهم بأبيها عليّ عليه السلام. وفي إشارة إلى هيبتها وقوة حضورها قال: "وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأصوات"(7)! ثمّ خطبت عليها السلام خطبة صغيرة، ذكرت فيها غدرهم وخذلانهم، وأشعرتهم بالندم على فعالهم. حكاية مسجد| ضريح أم الغلام «تجاور فاطمة بنت الحسن».. وخلافات حول شخصيتها. وممّا جاء فيها قولها: "يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنّة. أتبكون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، ولقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبداً...
ويلكم! أتدرون أيّ كبدٍ لمحمّدٍ فريتم، وأيّ دمّ له سفكتم، وأيّ كريمة له أصبتم؟ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ (مريم: 89-90)"(8). إلى أن قال الراوي: "ثمّ سكتت، فرأيتُ الناس حيارى، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً قد بكى حتّى اخضلّت لحيته، وهو يقول:
كهولكم خير الكهول ونسلكم إذا عدّ نسل لا يخيب ولا يخزى"(9)
نعم، لقد أشعرتهم عليها السلام بالندم الذي تسلّل إلى أعماق نفوسهم، ولا نستبعد التحليل الذي يقول إنّها عليها السلام بكلماتها هذه وسواها من كلمات من كان معها، تأسّست البذور الأولى لحركة التوّابين وطلب الأخذ بالثأر، التي قلبت كرسي النظام الحاكم على رؤوس أصحابه.