الممعن في الصمت جوهر بطولته. وكان
إيمانه
بالله وبرسوله وبدينه ايمانا وثيقا, ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مشهد ولا في غزاة. وفي كل مشهد لم
يكن يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن الشهادة..! يوم أحد, حين حمي
القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..
وأبصره أخوه عمر
بن الخطّاب, وقد سقط درعه عنه, وأصبح أدنى منالا للأعداء, فصاح به عمر.
" خذ درعي يا زيد فقاتل بها"..
فأجابه زيد:
" إني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!! وظل يقاتل بغير
درع في فدائية باهرة, واستبسال عظيم. قلنا
رضي الله عنه, كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون
الإجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد, لم يكن مرتدّا
فحسب.. بل كان كذّابا منافقا, وصوليا. لم يرتدّ عن
اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة, ونفاق
بغيض هزيل. وزيد في بغضه
النفاق والكذب, كأخيه عمر تماما..! كلاهما لا يثير اشمئزازه, مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة, والأغراض
الدنيئة. ومن أجل تلك
الأغراض المنحطّة, لعب الرّجّال دوره الآثم, فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة
إرباء
فاحشا, وهو بهذا يقدّم بيديه
إلى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك
الردّة..
أضلّها أولا,
وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا.. ؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه, وزخرفها له
هواه, ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة, لا في شخص مسيلمة
بل في شخص من هو أكبر منه خطرا, وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.
- قبر زيد بن الخطاب
- زيد ابن الخطاب
- زيد بن عمر الخطاب
قبر زيد بن الخطاب
وقال أبو حذيفة: "زينوا القرآن بالفعال"، وما زال يقاتل حتى أصيب وممن استشهد يومئذ: حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب، وكان شعار الصحابة يومئذ: «وامحمداه! » وصبروا يومئذ صبراً لم يعهد مثله حتى ألجئوا المرتدين إلى حديقة الموت فاعتصم فيها مسيلمة ورجاله، فقال «البراء بن مالك»: "يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح لكم بابها" فاحتملوه فوق الجحف ورفعوه بالرماح وألقوه في الحديقة من فوق سورها، فما زال يقاتل المرتدين دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون وكان النصر، وممن اقتحم الحديقة «أبو دجانة» من مجاهدي غزوة بدر حتى وصل إلى مسيلمة وعلاه بالسيف فقتله، وكسرت رجله -رضي الله عنه- في تلك الوقعة ثم نال الشهادة. ولقد استشهد خلق كثير من الصحابة قيل أنهم سبعمائة. ** وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد أحزنه مقتل الصحابة في اليمامة، لاسيما أخوه زيد بن الخطاب، وأقلقه مقتل الحُفّاظ منهم، مثل: سالم مولى أبي حذيفة، وهو من أشهر حفاظ القرآن، فجاء إلى الخليفة الصديق -رضي الله عنه- وقال له: "إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تهافتوا يوم اليمامة تهافت الفراش في النار، وإن القتل استحرّ بأهل اليمامة من قراء المسلمين، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القراء، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
** قال الحافظ في الإصابة: "قال الزبير: حدّثني إبراهيم بن محمّد بن عبد العزيز، قال: ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فكان ألطف مَنْ وُلِد [أي: أصغر المولودين وأدقّهم جسماً وضعفاً]، فأخذه جده أبو لبابة في خرقة فأحضره عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: ما رأيت مولوداً أصغر خلقة منه، فحنكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومسح رأسه ودعا له بالبركة، قال: فما رؤي عبد الرحمن في قوم إلاّ فَرِعهم طُولاً". وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو صغير، وكان دميماً، ودعا له بالبركة، ففرع الرجال طولاً وتماماً. وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب القرشي، أُمُّه لبابة الأنصارية، ولد سنة خمس، وقال مصعب: كان له عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- ست سنين. زَوَّجه عمر ابنته فاطمة، وولاّه يزيد بن معاوية إمرة مكّة. ومات في ولاية عبد الله بن الزبير. ** ومن نسل زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- الإمام الخطابي أبو سليمان. نسبة إلى زيد بن الخطاب (319- 388) من أهل بست [من بلاد كابل] إمام. فقيه. محدث.. له في الحديث اليد الطولى. فهو أول من شرح البخاري. من تصانيفه: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري ، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، ورسالة في العزلة، وشأن الدعاء ، والغنية عن الكلام وأهله.
زيد ابن الخطاب
فقرر أبو بكر الصديق حرب المرتدين والقضاء عليهم ، وإعادة الحقوق للمسلمين ، وإعادة الأمن إلى الدولة الإسلامية ، فأرسل أبي بكر الصديق عكرمة بن أبي جهل لمحاربة مسيلمة الكذاب ، ولكن مسيلمة كان مخادعًا فانسحب من أمام عكرمة ، ففرح عكرمة بنصره ، وتقدم ، ولم يترك من يحمي الجيش خلفه ، فاستطاع مسيلمة أن يحاصر جيش عكرمة من الخلف ، ويهزمه. معركة اليمامة:
بعد هزيمة المسلمين أرسل أبو بكر الصديق خالد بن الوليد لمحاربة مسيلمة ، فقسم خالد الجيش إلى قسمين: قسم المهاجرين و الأنصار ، وأسند قيادة المهاجرين إلى زيد بن الخطاب ، فحمل زيد الراية. ولما رأى تراجع المسلمين أمام المرتدين ، وقف وهو يحمل راية المهاجرين ، وصاح في أصحابه قائلًا: اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي ، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة الكذاب ، ونهار الرجال ، ومحكم بن طفيل. رأى زيد أن هجوم المرتدين يزداد ساعة بعد ساعة ، وعدد شهداء المسلمين يزداد كل لحظة ، ووجد الخوف يسيطر على المسلمين ، ترك زيد صفوف الجيش ، ووقف على أعلى ربوة في أرض المعركة غير خائف من الموت ، وصاح في أصحابه يبث فيهم روح العزيمة والإقدام: أيها الناس عضوًا على أضراسكم ، واضربوا عدوكم ، وامضوا قدمًا ثم صاح زيد في أصحابه ، وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله ، أو ألقاه سبحانه وتعالى ، فأكلمه بحجتي.
نسبه: هو زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح القرشيّ العدويّ، أخو عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما. وكان أسنّ من عمر بن الخطّاب، وأسلمَ قبله. وقيل في وصفه أنه كان أسمر البشرة شديد الطّول، آخى النّبيّ بينه وبين معن بن عديّ العجلانيّ. شهِد غزوات عدّة مع الرّسول منها بدر. حدّث عنه عبد الله بن عمر ابن اخيه أمر النّهي عن قتل عوامر البيوت، كما روى عنه ابنه عبد الرّحمن بن زيد حديثين عن النّبي عليه السّلام. إسلامه وجهاده في سبيل الله: كان من أوّل المسلمين المهاجرين الأوّلين. وكان قد شهد المشاهد كلها مع النّبي كبدر وأحد والخندق والحديبيّة. وكان سيدنا زيد بن الخطاب راغبًا في الشّهادة في سبيل الله؛ ففي غزوة أُحد لما أراد سيدنا عمر بن الخطاب أن يعطيه درعه، أبى سيدنا زيد قائلاً له: إني أريد الشهادة كما تريدها يا عمر.. وآخر ما شهدها كانت معركة اليمامة التي استشهد فيها وكان في صفوف المسلمين حاملًا رايتهم معه لذلك كان رجال المشركين يستهدفونه ويباغتونه ليوقعوا بالرّاية فتنهزم نفوس المسلمين قبل الهزيمة الفعليّة. غير أنّ زيد بن الخطّاب لم يكن كأيّ مقاتل آخر، فراح يستبسل ويستميت في القتال والرّد والاستمساك بالرّاية حتّى لفظ آخر أنفاسه مجاهدًا في سبيل الله.. وما سقطت راية المسلمين إلّا بموته.
زيد بن عمر الخطاب
كان الخطاب بن نفيل عمّ زيد بن عمرو بن نفيل وأخاه لأمه؛ وذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خَلف على امرأة أبيه بعد أبيه وكان لها من نفيل أخوه الخطاب، وكان زيدٌ كثيرًا ما يعزم الخروج للسفر بحثًا عمن يساعده لاعتناق دين سيدنا إبراهيم الحنيف -عليه السلام- إلا أنه كلما أراد السفر أرسلت زوجته صفية بنت الحضرمي إلى الخطاب بن نفيل ليوقفه عن السفر وعن تغيير دينه، فكان يمنعه الخروج ويعاتبه على فراق دين آبائه وأجداده، ونبذ عبادة الأصنام، ويوصي زوجته بإخباره كلما هَمّ بالخروج؛ ليمنعه من التحولِ عن دين قومه.
// قال ابن عمر: "وكان من أفضل الوفد عندنا، قرأ البقرة وآل عمران، وكان يأتي أبيا يقرئه، فقدم اليمامة، وشهد لمسيلمة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أشركه في الأمر من بعده!! فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من غيره لما كان يعرف به" // قال رافع بن خديج: كان بالرجّال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما نرى شيء عجيب، خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما وهو معنا جالس مع نفر، فقال: (أحد هؤلاء النفر في النار) قال رافع: فنظرت في القوم فإذا بأبي هريرة وأبي أروى الدوسي وطفيل بن عمرو الدوسي والرَّجال بن عنْفُوة، فجعلت أنظر وأعجب وأقول: "من هذا الشقي؟! " فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجعت بنو حنيفة، فسألت ما فعل الرجال قالوا افتتن، هو الذي شهد لمسيلمة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أشركه في الأمر من بعده، فقلت: ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حق". ** ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب الكشف عن أسماء المنافقين بل كان يسترهم، وكان حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- هو صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأنهم، وكان يعرفهم ولا يعرفهم غيره بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البشر، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أسر إليه بأسماء عدة منهم ليراقبهم، ولذا فإن معرفة أسمائهم بالتفصيل ليست متاحة إلا بالنسبة لمن ورد في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إشارة إليه بصفة غير مباشرة، كما هو الحال في «الرَّجال بن عنْفُوة» الذي قال عنه ذات يوم: ( « إن فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد »).