سيف بن ذي يزن وسيرته على الرغم من أن قضية (ماء النيل) بقيت حبيسة التناول الرسمي على مدار التاريخ، إلا أن أهميتها فرضت نفسها على العقل الجمعي والخيال الشعبي المصري إلى حد اختراع شخصيات أسطورية بطولية تمزج ما بين الحقيقة والخيال، وتجعل من قضية النيل وإزالة تهديد الأحباش (الأثيوبيين) له على رأس أولوياتها، فما حقيقة هذا التهديد؟ وكيف تفاعل المصريون معه؟ حمّلت بعض المصادر التاريخية ملك الحبشة، مسئولية ما عرف بـ« الشدة المستنصرية » التي حلّت على المصريين في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القرن الخامس الهجري/ الثالث عشر الميلادي، فقد اتهمت تلك المصادر ملك الحبشة بالعبث بمنابع وروافد نهر النيل. وعلى الرغم من عدم وجود ما يثبت صدق هذا الكلام أو ينفيه، إلا أن هذا الإدعاء بقيت له أصداؤه في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، وبحسب السير الشعبية فإن ملك الأحباش أرسل إلى سلطان مصر المملوكي قائلًا « إن نيل مصر الذي هو قوام أمرها وصلاح أحوال سكانها، مجراه من بلادي، وأنا أسدُها ». سيرة سيف بن ذى يزن وقد مثلت قضية مياه النيل من الأهمية عند المصريين، ما جعل الخيال الشعبي يتفاعل معها بإبداع واحدة من أروع السير الشعبية في التراث الشعبي العربي، وهي سيرة « سيف بن ذي يزن » التي تحتل مكاناً بارزاً بين السير الشعبية العربية، بسبب نضاله العروبي ضد الأحباش.
- مسلسل سيف بن ذي يزن الحلقه 1
- سيف بن ذي يزن مسلسل
- سيرة سيف بن ذي يزن
مسلسل سيف بن ذي يزن الحلقه 1
ولأن شخصية الخصم اللدود لبطل السيرة هو ( سيف أرعد) والذي كان حاكما فعليا للحبشة، فإن الباحثين يرجحون أن تاريخ تأليف هذه السيرة يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهي فترة اشتد فيها خطر الغزو الصليبي من جهة الشمال، وهناك ما يؤكد التعاون الحبشي مع الصليبيين على محاصرة مصر اقتصاديا وسياسيا، والتشاور حول قضية قطع مياه النيل عن مصر. وعلى الرغم من أن سيرة «سيف بن ذي يزن» تُلبس بطلها لباسا غير بشري، وتجعل منه ملكا على الإنس والجن معا، وتسخّر له من الجن من يعينه على تنفيذ الكثير من مهامه، إلا أن قضية مياه النيل وإزالة الخطر والتهديد الحبشي لها كانت القضية المحورية التي شغلت رواة سيرة سيف بن ذي يزن ومدونيها. أما سيف بن ذي يزن، فهو أحد أشهر وآخر الملوك الذين حكموا اليمن من قصر غمدان في الفترة من (516م -574م)،. ويرجع إليه الفضل في طرد الأحباش من بلاد اليمن بعد أن ظلوا يحكمونه أكثر من سبعين سنة، ويتحكمون في مقادير المياه والعباد منذ عهد ذي نواس حوالي أوائل القرن السادس قبل الميلاد. وحسبما يروى فإنه وعندما توافدت وفود العرب إلى قصر غمدان مهنئة «بن ذي يزن» بالنصر كان ضمن وفد قريش عبدالمطلب جد النبي محمد فبشره سيف بن ذي يزن بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.
سيف بن ذي يزن مسلسل
وسيكون لهذه البشارة تأثيرها الكبير في السيرة الشعبية التي ستشتهر وتروج له بعد زمن النبوة بسبعة قرون، إذ ستجعل السيرة من إعلاء كلمة التوحيد، والقضاء على عبادة الأوثان، ولاسيما زحل الذي كان يعبده أهل الحبشة، ونشر دعوة نبي الله ابراهيم واحدة من أهداف ملحمته الكبرى. تبدأ حكاية سيف بن ذي يزن في السيرة الشعبية بقصة الوالد الملك ذي يزن الذي كان ملكا عادلا رحيما محبا للعمارة والبناء، شغوفا بالمياة وبنهر النيل ومنابعه وتفريعاته ومصباته، حريصا على إقامة السدود وشق مجاري المياه إلى سائر أركان مملكته في بلاد اليمن التي صارت لا نظير لها في الخير والنماء، وإلى جواره الوزير يثرب الحكيم المؤمن بالواحدانية وبدين خليل الله ابراهيم. وفي السيرة أن الملك ذي يزن كان قد قرر الخروج على رأس جيشه إلى قلب إفريقيا بحثا عما سمي بـ( كتاب النيل)، والمقصود بكتاب النيل هو ما استُوثق وجُمع من خرائط ومخطوطات تحدد منابع النيل وجريانه ومصباته بما تمثله من أهمية قصوى لاستمرار الحياة. خرج الملك من اليمن جنوبا باتجاه بلاد الحجاز حيث نظر إلى يثرب الحكيم المؤمن وهو يطوف بالبيت العتيق، فسأله عما يفعل فأخبره بأن هذا البيت بناه نبي الله ابراهيم وولده اسماعيل، وأن هذه البلاد في انتظار نبي يبعث سيجعل للعرب الإمامة والقيادة على سائر الأمم، فما كان من ذي يزن إلا أن قام بكساء الكعبة بالحرير والمنسوجات المطرزة بالذهب والياقوت وأغلى الاحجار، كما أمر ببناء مدينة على إسم صديقه ووزيره يثرب وشق فيها مجاري المياه، وأقام الزراعات، وأصبحت المدينة تحمل اسم يثرب الحكيم وهي التي ستكون لها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
سيرة سيف بن ذي يزن
مات ذي يزن، ووضعت قمرية وريث العرش سيف بن ذي يزن التبعي صاحب الشامة الخضراء على جبينه، و ما أن ولد حتى سار الرعب في أواصر سيف أرعد وكاهنه سقرديوس لعلمهما أن مٌلك الأحباش، وعبادة زحل سينتهيان على يديه، وبدأوا في تدبير المكائد للتخلص منه قبل أن يكبر.
كان سقرديوس يعرف أن لا قبل لهم بملاقاة ملك التبع، ومن ثم أشار إلى الملك بتحاشي الصدام واللجوء إلى الخديعة للتخلص من الملك ذي يزن، بإرسال الجارية العجمية البيضاء ( قمرية) مع محامل الهدايا، والتي ستشغف قلبه قبل أن تضع له السم الزعاف في الشراب، لكن قمرية لم تتمالك نفسها أمام حنان وصدق و علو همة الملك ذي يزن فاعترفت له بما رُتِّب له من خديعة، وسلمت له أنبوب السم الزعاف التي كانت قد أخفتها بين جدائل شعرها. أم سيف بن ذي يزن و عرف سيف أرعد بما كان من قمرية فجن جنونه منها، تزوجت قمرية من الملك ذى يزن الذي غمرها حبا وحنانا، وكانا يجلسان الساعات الطوال يتباحثان في ما قام بجمعه من خرائط وأسرار لمنابع ماء النيل، ونقاط تجمع المياه وجريانها، ومصباتها، وكيف أن التحكم في منابع المياه في اثيوبيا يحمي حياة الناس في بلاد العرب، ولقد بلغت سعادتها مداها حين شعرت بحركة في أحشائها. كان الملك مريضا حين عرف بخبر قدوم ولي العهد الذي قرر أن يسميه سيف، وقد وصل نبأ مرضه إلى ملك الحبشة سيف أرعد فقرر مهاجمة عاصمته أحمرا، ليحكم سيطرته بعدها على السودان، واخميم وبلاد النوبة وأسوان، وبينما كان الملك ذي يزن طريح الفرش لم يكن أمام قمرية الداهية سوى أن ترتدي دروع زوجها وتتخذ هيئته لتلهب حماس الجيش الذي أربكه خبر مرض الملك، ورغم حملها فقد نجحت في صد هجوم أرعد الذي عاد مرعوبا يلعن العيارين والبصاصين الذين أخبروه كذبا بمرض زي يزن.