القول في تأويل قوله تعالى: ( كلا بل تحبون العاجلة ( 20) وتذرون الآخرة ( 21) وجوه يومئذ ناضرة ( 22) إلى ربها ناظرة ( 23) ووجوه يومئذ باسرة ( 24) تظن أن يفعل بها فاقرة ( 25)). يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الآخرة: ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ، ولا تجازون بأعمالكم ، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة ، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة [ ص: 71] ونعيمها ، فأنتم تؤمنون بالعاجلة ، وتكذبون بالآجلة. كما حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) اختار أكثر الناس العاجلة ، إلا من رحم الله وعصم. الباحث القرآني. وقوله: ( وجوه يومئذ ناضرة) يقول تعالى ذكره: وجوه يومئذ ، يعني يوم القيامة ناضرة: يقول حسنة جميلة من النعيم; يقال من ذلك: نضر وجه فلان: إذا حسن من النعمة ، ونضر الله وجهه: إذا حسنه كذلك. واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل البخاري ، قال: ثنا آدم ، قال: ثنا المبارك ، عن الحسن ( وجوه يومئذ ناضرة) قال: حسنة.
- الباحث القرآني
- أوصاف الوجوه يوم القيامة في القرآن الكريم
- القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة القيامة - الآية 23
- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
الباحث القرآني
قال في لسان العرب: وبَسَرَ يَبْسُرُ بَسْراً وبُسُوراً: عَبَسَ. وَوَجْهٌ بَسْرٌ: باسِرٌ، وُصِفَ بالمصدر. وفي التنزيل العزيز: ﴿ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ؛ وفيه: ﴿ثم عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾؛ قال أَبو إِسحق: بَسَرَ أَي نظر بكراهة شديدة. وقوله: ﴿ووجوه يومئذ باسرة ﴾ أَي مُقَطِّبَةٌ قد أَيقنت أَن العذاب نازل بها. وبَسَرَ الرجلُ وَجْهَه بُسُوراً أَي كَلَحَ. القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة القيامة - الآية 23. وفي حديث سعد قال: لما أَسلمتُ رَاغَمَتْني أُمِّي فكانت تلقاني مَرَّةً بالبِشْرِ ومَرَّةً بالبَسْرِ؛ البِشْرُ، بالمعجمة: الطلاقة؛ والبَسْرُ، بالمهملة: القُطُوبُ؛ بَسَرَ وَجْهَهُ يَبْسُرُه. اهـ
عندما ينتظر الإنسان مصيره ومستقبله أو أمراً بالنسبة له خطير جداً ؛ سيكون وجهه قلقاً مضطرباً. لذلك عندما يُقبض على مجرم، ويقاد إلى العدالة سيكون وجهه باسراً مقطباً قلقاً مضطرباً كالحاً، لأنه سيلقى العذاب والعقوبة، وقد فعل ما يستأهل هذه العقوبة. لماذا وجوه هؤلاء باسرة ؟ جاء الجواب الإلهي: ﴿تظن أن يفعل بها فاقرة﴾ أي تنتظر داهية ستنزل عليها. ﴿تظن﴾ أي تعتقد. فإن قيل: لماذا عبّر الله عز وجل عن كلمة (تعتقد) بـ ﴿تظن﴾ ؟
قلت: لأنها تريد أن تدفع هذا الاعتقاد، فهي لا تريد، ولكن سيُفعل بها، قال في لسان العرب: قال أَبو إِسحق في قوله تعالى: ﴿تظن أن يفعل بها فاقرة﴾ ؛ المعنى توقن أَن يُفْعَلَ بها داهية من العذاب.
أوصاف الوجوه يوم القيامة في القرآن الكريم
﴿عاملة ناصبة ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية اللّه عز وجل، وعلى الكفر؛ مثل عبدة الأوثان. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم. وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، - وقرأ قول اللّه عز وجل - ﴿وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة ﴾
قال الكسائي: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيء الحال. أوصاف الوجوه يوم القيامة في القرآن الكريم. اهـ تفسير القرطبي. وقيل: وجوه في الدنيا خاشعة عاملة ناصبة تصلى يوم القيامة ناراً حامية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم فإن هذا إلى المدح أقرب وغايته أنه وصف مشترك بين عباد المؤمنين وعباد الكفار، والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص لقيل خاشعة للأوثان مثلاً عاملة لغير الله ناصبة في طاعة الشيطان وليس في الكلام ما يقتضي كون هذا الوصف مختصاً بالكفار ولا كونه مذموماً ، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقاً ولا وعيد عليه فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن.
القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة القيامة - الآية 23
هذا لأن له قوانين أخرى. إذن ناضرة هي من الحُسن مكتوبة بالضاد التي هي الصاد المنقوطة والتي نحار الآن في نطقها وتناولن هذا في حلقة سابقة. النطق الصحيح لها ممكن أن ترخي لسانك وتخرج صوتك من حافة اللسان مع ما يليه من الأضراس جانبي ويمتد به الصوت كما يمتد بالشيــــن. عدد من المسلمين يقول ناضرة هنا بمعنى منتظرة، هؤلاء يعطّلون أحاديث كثيرة صحيحة وردت في الصحاح في البخاري ومسلم. لهم رأيهم ولهم منهجهم وكلٌ له رأيه لكن نحن نعتقد برأي جمهور المسلمين.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
نعم. وهذا الباب عقده البخاري -رحمه الله- لإثبات رؤية الله -عز وجل- في الآخرة، والرؤية من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة، وبين أهل البدع، الرؤية والكلام والعلو هذه الصفات الثلاث اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وأهل البدع؛ فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدعة. فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة كلهم ينفون الرؤية، والأشاعرة ينفون الرؤية؛ لكن يثبتونها من غير مقابلة؛على شيء اسمه الرؤية, ولكن من دون مقابلة, فتقول لهم: كيف يرى الرب؟ أين يرى؟ من فوق؟ يقولون: لا. من تحت؟ لا. يمين؟ لا. شمال؟ لا. أمام؟ لا. خلف؟ لا. وين يرى؟ يقولون: لا في جهة، هذا غير معقول! هذا غير معقول؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة من الرائي، وأما المعتزلة والجهمية أنكروها -أنكروا الرؤية- وكذلك العلو أنكرها الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، وكذلك الكلام والعلو والرؤية، وكذلك الكلام صفة الكلام أثبتوها والأشاعرة أثبتوها على غير وجهها، قالوا: الكلام معنى قائم بالنفس.
فمن اضطر الناس أيها المعارض إلى الأخذ بالمبهم من كلام أبي حنيفة الذي رويت عنه -إن كان قاله- مع ترك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنصوص المفسر؟هذا إذا ظلم عظيم وجور جسيم. ( نقض الدارمي)
ناضرة": من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية، أي أنَّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية، وهذا شبيه لما جاء في الآية (24) من سورة المطفّفين: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم). هذا من ناحية العطايا المادية، وأمَّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى: ( إلى ربّها ناظرة) نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المُطْلَقَيْن، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف، إذ أنَّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن تقديم (إلى ربّها) على (ناظرة) تفيد الحصر، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره. وإذا قيل إنَّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضاً، فإنّنا نقول: إذا نظروا إلى غيره فإنّهم سوف يرون آثار الله فيها، والنظر إلى الأثر هو نظرٌ إلى المؤثر، وبعبارة أُخرى أنَّهم يرونه في كلّ مكان. ويرون تجلي قدرته وجلاله وجماله في كل شيء، ولذا فإنَّ نظرهم إلى نعم الجنان لايجرهم إلى الغفلة عن النظر إلى ذات الله. ولهذا السبب ورد في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية: (إنّهم ينظرون الى رحمة الله ونعمته وثوابه) (2) لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدّسة.