القول في تأويل قوله تعالى: ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ( 16))
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله: ( إنها) فقال بعض نحويي البصرة: ذلك كناية عن المعصية والخطيئة. ومعنى الكلام عنده: يا بني ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل ، أو إن الخطيئة. وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه الهاء عماد. إنها إن تك مثقال حبة من خردل. وقال: أنث " تك " ، لأنه يراد بها الحبة ، فذهب بالتأنيث إليها ، كما قال الشاعر: وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال صاحب هذه المقالة: يجوز نصب المثقال ورفعه ، قال: فمن رفع رفعه ( ب " تك ") ، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها ، ومن نصب جعل في " تكن " اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله: ( إنها إن تك): ومثله قوله: ( فإنها لا تعمى الأبصار) قال: ولو كان ( إن يك مثقال حبة) كان صوابا ، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحب المقالة الأولى ، فإن نصب مثقال في قوله على أنه خبر ، وتمام كان ، وقال: رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر. وأولى القولين بالصواب عندي ، القول الثاني ؛ لأن الله - تعالى ذكره - لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم ، فيقال: إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها ، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما.
- إنها إن تك مثقال حبة من خردل
إنها إن تك مثقال حبة من خردل
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
قالَ لُقمانُ يَعِظُ ابنَه: يا بُنَيّ، إنَّ الخَصلَةَ مِنَ الإساءَةِ والإحسَان، مَهما كانتْ صَغيرَةً حَقيرَة، كزِنَةِ حبَّةِ خَرْدَل( [1])، فتَكُونُ في أخفَى مَكان، كجَوفِ صَخرَة، أو في أيِّ مَكانٍ مِنَ السَّماواتِ والأرْض، يُحْضِرُها الله، ويُحاسِبُ مَنْ عَمِلَ بقَدْرِها، إنَّ اللهَ لَطيفٌ بكيفيَّةِ استِخراجِها وإحضارِها، عالِمٌ بكُنهِها ومَكانِها. ([1]) الخَرْدَلُ نباتٌ عشبيّ، تُستَعملُ بزورهُ في الطبّ، ويُضرَبُ بها المثَلُ في الصِّغَر. (ينظر المعجم الوسيط). { يا بني إنها إن تك مثقال} روي أن ابنه قال له: إن علمت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله عزوجل ؟ فقال: { إنها} أي: الخطيئة { إن تك مثقال حبة من خردل} أو: السيئة ثم كانت { في صخرة} أي: ي أخفى مكان { أو في السماوات أو في الأرض} أينما كانت أتى الله بها ولن تخفى عليه ومعنى { يأت بها الله} أي: للجزاء عليها { إن الله لطيف} باستخراجها { خبير} بمكانها. يا بنيَّ اعلم أن السيئة أو الحسنة إن كانت قَدْر حبة خردل- وهي المتناهية في الصغر- في باطن جبل، أو في أي مكان في السموات أو في الأرض، فإن الله يأتي بها يوم القيامة، ويحاسِب عليها.
وهذا كقول الشاعر: مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم و ( تك) هاهنا بمعنى تقع ، فلا تقتضي خبرا. قوله تعالى: فتكن في صخرة قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم; أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض. وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض. وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت. وقال السدي: هي صخرة ليست في السماوات والأرض ، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم; لأنه قال: أو في السماوات أو في الأرض وفيهما غنية عن قوله: فتكن في صخرة; وهذا الذي قاله ممكن ، ويمكن أن يقال: قوله: فتكن في صخرة تأكيد; كقوله: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، وقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا.