( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا)
قوله تعالى: ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة ، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصروا على المعصية فقد أساءوا إلى أنفسهم ، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب ، وأن الإساءة إليها قبيحة ؛ فلهذا المعنى قال تعالى: ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). المسألة الثانية ؛ قال الواحدي: لا بد ههنا من إضمار ، والتقدير: وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، والمعنى: إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات ، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات.
اعراب سورة الإسراء الأية 7
وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل { أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها ، كقوله في سورة [ فصلت: 46] { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد ، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه ، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام ، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب ( إلى) ، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر. تفريع على قوله: { وإن أسأتم فلها} [ الإسراء: 7] ، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة. وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله: { فإذا جاء وعد أولاهما} [ الإسراء: 5] ، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع. و { الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله: { مرتين} ، أي وعد المرة الآخرة. وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء.
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي: محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل: المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب، وقوله تعالى: ثم لم يتوبوا قال ابن عطية: يقوي أن الآية [ ص: 91] في قريش؛ لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم، والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فلهم عذاب جهنم أي: بسبب فتنهم ذلك. إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة البروج - قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - الجزء رقم31. ولهم عذاب الحريق وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبئ عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة: أي: فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات، وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى. وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة، وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة، فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب، وقيل: أي: فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله، وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر، وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف؛ كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة، وهذا أيضا لا يتجاوزونه.
إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة البروج - قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - الجزء رقم31
والمؤمنات المفتونات منهن: حمامة أم بلال أمة أمية بن خلف ، وزنيرة ، وأم عنيس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث ، والنهدية وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة ، ولطيفة ، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها ، وسمية أم عمار بن ياسر كانت لعم أبي جهل. [ ص: 246] وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن المنبه بن الحجاج. وعطف المؤمنات للتنويه بشأنهن لئلا يظن أن هذه المزية خاصة بالرجال ، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة. وجملة ثم لم يتوبوا معترضة. ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات تفسير. وثم فيها للتراخي الرتبي; لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين. وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلموا من عذاب جهنم. والفتن: المعاملة بالشدة والإيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصا إلا بعناء أو ضر أخف أو حيلة ، وتقدم عند قوله تعالى: والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة. ودخول الفاء في خبر إن من قوله: فلهم عذاب جهنم لأن اسم إن وقع موصولا والموصول يضمن معنى الشرط في الاستعمال كثيرا. فتقدير: إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم; لأن عطف قوله: ثم لم يتوبوا مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط.
ومفهوم ذلك أن من لا يتقي الله فإنه لا ينعم بهذا الفضل الذي جعله الله للمتقين من
عباده ، ومن تقوى الله أن يهجر ما حرم الله عليه ويتوب إليه منها. كما وينظر جواب السؤال رقم: ( 128990). والله تعالى أعلم.