الخطبة الأولى:
أما بعد: فحين يقرأ الإنسانُ قوله -تعالى-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة:11]، فإنه يدرك أن موضوع المجالس ذو أهمية كبيرة، فشيءٌ يُصدّر بهذا النداء العظيم، وفعلُه يزيد الإيمان، وتركه ينقص الإيمان، يعني أهميته الجليلة. والمجالس التي يلتقي فيها الناس، هي تجاوبٌ فطري مع طبيعة البشر التي تحب الأُنس والاجتماع. من آداب المجلس. وإذا ذُكرت المجالس فإن أشرفها هي تلك المجالس التي تبحث عنها ملائكة الرحمن، ففي صحيح مسلم: " إن لله -تبارك وتعالى- ملائكة سيارة، فُضُلا، يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذِكر قَعدوا معهم، وحف بعضُهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله -عز وجل-، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك ". ومن أشرف المجالس: تلك التي يتذاكر فيها الناس سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك، يقول: مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدٍ... ".
- 276 من: (باب في آداب المجلس والجليس)
- من آداب المجالس
- {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} - أم سارة - طريق الإسلام
276 من: (باب في آداب المجلس والجليس)
والعتابُ -إن كان له موجِب- فيؤجل لوقتٍ لاحق، ولا يكون في ذات المجلس وأمام الحضور، والمضيّفُ الحكيم -إن كان له حق في العتاب- فإنه يستطيع أن يوصل الرسالة لاحقاً، أو إن كان لاستعجالها ضرورة: فعند توديع الزائر، بلطفٍ ممزوجٍ بابتسامة، فيقال: يا فلان، زيارتك سرّتني، وتكرارها يسعدني، فلا تبطئ علينا فإننا نشتاق لك، وأمثال هذه العبارات التي سيكون لها الأثر الكبير على الضيف، وإلا فقد يذهب الضيف ولا يعود. من آداب المجالس. ومن أدب المجالس: ما أشارت إليه الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة:11]، قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "فهذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضُهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح فسح الله له، ومن وسع لأخيه، وسع الله عليه. ( وإذا قيل انشزوا) أي: ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تَعرِض، (فانشزوا) أي: فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة، فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان، والله -تعالى- يرفع أهل العلم والإيمان درجات بحسب ما خصهم الله به، من العلم والإيمان".
من آداب المجالس
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" [12]. 276 من: (باب في آداب المجلس والجليس). 9- مراعاة أدب الحديث، كحسن الاستماع والإنصات، وعدم المقاطعة أو الاستئثار بالحديث، أو رفع الصوت، أو كثرة الضحك، أو الانشغال عن الضيوف بالجوال أو غيره من الأمور التافهة. 10- عدم إفشاء أسرار المجالس، روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا حُدِّثَ الْإِنْسَانُ حَدِيثًا، وَالْمُحَدِّثُ يَلْتَفِتُ حَوْلَهُ، فَهُوَ أَمَانَةٌ" [13]. 11- وينبغي للجالس إذا سمع درسًا علميًّا، أو موعظة، أو حديثًا نافعًا أن يصغي إليه ويحسن الاستماع ولا ينشغل عنه بالحديث بمن حوله، أو جواله، أو يشوش المجلس بالاتصالات أو باستقبالها. 12- الاستفادة من أهل الفضل الذين في المجلس، سواء كانوا من المشايخ أو طلبة العلم، أو من كبار السن، أو ممن لهم تجارب في الحياة، فقد لا تتيسر الفرصة للالتقاء بهم مرة أخرى، وقد ينفع الله بذلك المجلس، كان الإمام البخاري في مجلس إسحاق بن راهويه أمير المؤمنين في الحديث، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: فوقع في قلبي فأخذت في جمع الصحيح [14].
أيها المسلمون: لم ينته الحديث عن هذه الآداب، وفي الجمعة القادمة - إن شاء الله - نكمل الحديث عما تيسر منها. اللهم أدبنا بأدب كتابك وسنة نبيك...
وذلك قوله " بظلم " يعني: بشرك ، (وأهلها مصلحون) ، فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم ، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا. * * * -------------------------------------------------------- ابن عاشور: عطف على جملة { واتّبع الذين ظلموا ما أتفرفوا فيه} [ هود: 116] لما يؤذنه به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرّض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام ، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممّن نزل به منهم لم يكن ظلماً من الله تعالى ولكنهم جرّوا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحبّ الفساد. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} - أم سارة - طريق الإسلام. وصيغة { وما كان ربك ليهلك} تدل على قوة انتفاء الفعل ، كما تقدّم عند قوله تعالى: { ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب} الآية في [ آل عمران: 79] ، وقوله: { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ} في آخر [ العقود: 116] فارجع إلى ذينك الموضعين. والمراد بالقرى} أهلها ، على طريقة المجاز المرسل كقوله: { واسأل القرية} [ يوسف: 82]. والباء في { بظلم} للملابسة ، وهي في محل الحال من { ربّك} أي لمّا يهلك النّاس إهلاكاً متلبساً بظلم. وجملة { وأهلها مصلحون} حال من { القرى} أي لا يقع إهلاك الله ظالماً لقوم مصلحين.
{وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} - أم سارة - طريق الإسلام
قوله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
قوله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى أي أهل القرى.
" بظلم " أي بشرك وكفر. وأهلها مصلحون أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق; أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد ، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان ، وقوم لوط باللواط; ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك ، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على [ ص: 101] يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون ، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم ، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح; لأنه تصرف في ملكه; دليله قوله: إن الله لا يظلم الناس شيئا.
وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين ، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير; المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من [ ص: 102] رحم ربك ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين; ولذلك ، خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: فمنهم شقي وسعيد أي للسعادة والشقاوة خلقهم. قوله تعالى: وتمت كلمة ربك معنى " تمت " ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله; وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل.
" لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " " من " لبيان الجنس; أي من جنس الجنة وجنس الناس. " أجمعين " تأكيد; وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يملأ جنته بقوله: ولكل واحدة منكما ملؤها. خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.