حاشاك أن تحبط رجائى فأنت تعلم حالتى..
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله - ملتقى الخطباء
فإن كنا لا ندري ما يصنع الله بنا كأفرادٍ أو
كجيل، لكننا على يقين مِن أن الأمة لا تموت، وأن الحق منها لا يضيع، وأنه ( لَا
تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ
أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) (متفق عليه) ، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا منهم، وأن يجعلنا خطوات على
الطريق، ولبنات في البناء؛ إنه هو العليم الحكيم. وقوله -تعالى-: ( وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي: ذهب
ضوؤها، فعمي يعقوب -عليه السلام-، وهذا بلاء جديد، فإنه يأمل ويرجو أن يرى يوسف بعينيه،
ذهبت العينان وذهب البصر بسبب الحزن، ولكن الرجاء في الله باقٍ، والصبر قائم، وهذا
دليل على أن الحزن لا ينافي الصبر والرضا، فإنه مِن الرحمة بخلق الله -سبحانه- لا
مِن السخط على قدر الله. وكما قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( تَدْمَعُ الْعَيْنُ
وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللهِ يَا
إِبْرَاهِيمُ -يعني ابنه- إِنَّا
بِكَ لَمَحْزُونُونَ) (متفق عليه) ؛ إنه مقام الرحمة بالخلق وفيض المشاعر
الرقيقة الرفيعة، وزوال القسوة التي لا يحبها الله، إن وجود الألم الفطري لا ينافي
الرضا عن الله وبالله؛ فضلًا أنه ينافي الصبر، ولكن هذا الألم يذوب في حلاوة الرضا
ويفيض الله على القلب ما يغنيه ولا يشقيه، فيكون حزنًا وبثًّا عجيبًا لا يشقى به
الإنسان، بل يجد لذة الشكوى إلى الله، والشعور بآثار رأفته وروحه، ويبكي فرحًا،
ويشتكي سرورًا، ويتألم ملتذًا!
تفسير سورة يوسف الآية 86 تفسير السعدي - القران للجميع
فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني؟ قال: خطيئة فاغفرها. 19722 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا ثور بن يزيد قال: دخل يعقوب على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه ، فقال: ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب ، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فقال الله: يا يعقوب أتشكوني؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي. 19723 - حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا هشام ، عن ليث بن أبي سليم قال: دخل جبريل على يوسف السجن ، فعرفه ، فقال: أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، ألا تخبرني عن يعقوب أحي هو؟ قال: نعم. قال: أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فما بلغ من حزنه؟ قال: حزن سبعين مثكلة. تفسير سورة يوسف الآية 86 تفسير السعدي - القران للجميع. قال: أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فهل في ذلك من أجر؟ قال: أجر مئة شهيد. [ ص: 229]
19724 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال: حدثت أن جبريل أتى يوسف صلى الله عليه وسلم وهو بمصر في صورة رجل ، فلما رآه يوسف عرفه ، فقام إليه فقال: أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك بيعقوب من علم؟ قال: نعم!
فها هم أحد عشر رجلًا يستطيعون حفظ واحدٍ منهم،
فما قدرهم بالنسبة إلى قدر يوسف -عليه السلام-؟! إن هذه
البلايا إنما يقوم لها يوسف -عليه السلام- مقامهم مجتمعين، بل خيرًا منهم بلا شك،
ووالله لقد كان؛ فيوسف هو الذي يفرِّج الله به کرب يعقوب في بنيه،
ولكنه يفتقده حينما قال: ( يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، إن فقد الرجال وغياب الكرماء وانعدام الثقات هو الذي
يؤلم رعاة البشر؛ الأنبياء وأتباعهم. قال انما اشكو بثي وحزني الى ه. وإن هذا المعنى -والله أعلم- هو الذي جعل عمر
-رضي الله عنه- عندما صلى بالناس فقرأ هذه السورة، حتى إذا وصل إلى قوله -تعالى-
عن يعقوب -عليه السلام- في هذا الموضع: ( إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)،
سُمع نحيبه ونشيجه، أي: بكاؤه مِن آخر المسجد، وهو الذي قال: "اللهم إني أشكو
إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة! "، وقال لجلسائه: "تمنوا"، فيتمنى
أحدهم مالًا لينفقه في سبيل الله، ويتمنى الآخر خيلًا يجاهد عليها في سبيل الله،
وغير ذلك... فيقول: "لكني أتمني دارًا مثل هذه، فيها رجال مثل أبي عبيدة بن
الجراح أستعملهم في أمور المسلمين" -أو كما قال رضي الله عنه-. إنه والله
همٌّ عظيمٌ، وشدة شديدة أن يُفقد الرجال؛ إذا كان في زمان عمر والصحابة -رضي الله عنهم- حوله متوافرون
يشكو إلى الله عجز الثقة، بل أعظم مِن ذلك إذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
هو الذي يقول: ( إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ
تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) (متفق
عليه) ، فالراحلة التي تصلح للسفر
الطويل وحمل الأشياء، أقل مِن واحد بالمائة في الناس؛ فكيف بأزمانٍ انعدم فيها الثقات
وغاب فيها العلماء، وعز فيها الكرماء؟!