ناقشت الفلسفة الألمانية الكثير من القضايا الوجودية وارتبطت بجميع الفلسفات الأخرى، ولعل فريدريك نيتشه هو أبرز من يتبادر إلى تفكيرنا عند ذكر الفلسفة الألمانية، ذلك الفيلسوف الذي جذبت أفكاره شريحة كبيرة من القُرّاء على مرّ العصور، وهذا ما استغلّه الكاتب العبقري والطبيب النفسي "إيرفن ديفيد يالوم – Irvin David Yalom " في رواية "عندما بكى نيتشه – When Nietzsche Wept " التي صدرت عام 2015، فقد وَصَفَ شخصيات وأبطال واقعيين ضمن إطار أحداث خيالية أعطت الرواية أبعادًا مكانية وزمانية جذّابة. اقرأ أيضًا:
كائن لا تحتمل خفته: رواية إما أن تحبها، أو أنك قارئ كسول! عندما بكى نيتشه فيلم. قصة رواية عندما بكى نيتشه
تدور أحداث رواية عندما بكى نيتشه للكاتب إيرفن ديفيد يالوم حول فريدريك نيتشه الفيلسوف الفذّ العدمي صاحب نظرية "الله ميت ونحن قتلناه"، والطبيب الفييني جوزيف بروير الذي ابتكر تقنيّة جديدة في العلاج النفسي عبر الكلام وهو معلم العالم النفسي سيغموند فرويد، و"لو سالومي" تلك الفتاة الروسية الجميلة والفيلسوفة الحَذِقة التي أوقعت نيتشه في براثن حبها. تواصلت "لو" مع الطبيب بروير طلبًا منه بمساعدة نيتشه الذي سيصبح مستقبلًا أعظم فيلسوف وجودي في التاريخ، والذي اجتاحته المعاناة الجسدية والنفسية بعد خيانتها له مع أعز أصدقائه وولّد ذلك له الاكتئاب والرغبة في الانتحار.
- Nwf.com: عندما بكى نيتشه: إرفين د. يالوم: كتب
وهنا أراد الكاتب القول أن العديد من الأفكار الجميلة هي فقط مجرد أفكار وغير قابلة للتطبيق في الواقع، فنيتشه اقترح على الطبيب فكرة طبّقها على نفسه مُبتعدًا عن فكرة الاختلاف بكافة جوانب حياة الشخصين، فبروير طبيب متزوّج لديه أولاد وتُغلّف حياته الالتزامات الاجتماعيّة والمهنيّة، أما نيتشه فهو فيلسوف عدمي وحيد بلا مسؤوليات وبلا التزامات تجاه أي شخص، وهنا أظهر الكاتب رأيه المغاير لنيتشه فلم يقل لنا "اصنع قدرك" بل "أحب قدرك". كما تقصّد الكاتب إيرفن ديفيد يالوم إظهار الاختلاف في اتجاهات العلاج النفسي بين شخص وآخر، وذلك عندما طلب نيتشه من بروير أثناء دوره كطبيب أن يقوم بأفعال وتخيّلات ليتخلص من التفكير في بيرثا، لكن عندما دخل بروير في غيبوبة تخيل أحداث من صنع عقله الباطن دون حاجته إلى نيتشيه، فلكل شخص أساليبه الخاصة في راحة نفسه وتخلصه من متاعب نفسية تراكمت عبر السنين. تعاطف نيتشه مع الطبيب بروير فقد وجد أن القهر واليأس الذي يتملّكه متعب جدًّا حتى بكى نيتشه من أجل الطبيب، فصوّر الكاتب اللحظة التي انتقل فيها نيتشه إلى الواقع الإنساني، وهنا انطلقت فلسفته الجديدة بأن الإنسان انتصر على الفيلسوف المُتَخفّي بحياديته، وأن هدف الفلسفة هو إنقاذ المشاعر الإنسانية بداخل كل إنسان والإضاءة عليها.
وينوه صاحب "علاج شوبنهاور" إلى أن نيتشه لم يلتقِ بريوير قط، وأن العلاج بالتحليل النفسي لم يستنبط من لقائهما، لكن وضع الشخصيات الرئيسة يستند إلى الوقائع والمكونات الضرورية لروايته، والتي يؤكد أنها صحيحة كلها من الناحية التاريخية في 1882، تلك المتمثلة في الألم النفسي الذي يعتري بريوير، وحالة اليأس لدى نيتشه، وآنا، ولو سالومي، وعلاقة فرويد مع بريوير، والجنين الذي كان ينمو، وهو العلاج بالتحليل النفسي. ويشير يالوم إلى أنه في العام 1882 لم يكن العلاج بالتحليل النفسي قد انبعث بعد، وأن نيتشه لم يوجه اهتمامه في هذا الاتجاه، وأنه استدل من أبحاثه إلى أن نيتشه كان مهتما بعمق بالفهم الذاتي والتغيير الشخصي، وأنه من أجل الاتساق الزمني قيد نفسه بأعمال نيتشه قبل عام 1882، لاسيما "هو ذا الإنسان"، "تأملات قبل الأوان"، "الفجر"، العلم المرح"، وافترض أن الأفكار التي يصفها بالعظيمة في "هكذا تكلم زرادشت" كانت ترشح في عقل نيتشه حينها.