أخرج الإسماعيلي عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتد من ارتد من العرب وقالوا: نصلي ولا نزكي، فأتيت أبا بكر فقلت: يا خليفة رسول الله! تألف الناس وارفق بهم فإنهم بمنزلة الوحش، فقال: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، بماذا عسيت أن أتألفهم؟ بشعر مفتعل أو بسحر مفترى؟ هيهات هيهات! مضى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي، والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي وإن منعوني عقالاً، قال عمر: فوجدته في ذلك أمضى مني وأحزم وأدب الناس على أمور هانت على كثير من مؤنتهم حين وليتهم. وأخرج أبو القاسم البغوي، وأبو بكر الشافعي في فوائده، وابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- اشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بفنائها ١ أخرجه ابن سعد في الطبقات "١٦٩/٢". أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ٢ أخرجه الحاكم في المستدرك "٢٤٥/٣" وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: ولم يخرجا لعمارة شيئًا. ٣ أخرجه الطبراني في الأوسط "٧٩١٩/٢".
سمي ابو بكر رضي الله عنه بالصديق لانه
نصر الله الدين بالرجل الفاجر
ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم: إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه. أهمية إعلان الدعوة
الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق: وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم. فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.
ابو بكر الصديق رضي الله عنه
ومن أجل هذا فلا جرم أن يقول عمر وعلى رضي الله عنهما: ما سابقنا أبا بكر إلى خير قط إلا سبقنا عليه، فما أجمل أن يسعي الإنسان في الخير وأن يبحث عن الأجر في كافة مجالات الحياة لا يحتقر شيئاً ولا يضيع فرصة بل يغتنمها، فالحياة قصيرة وهي فرصة الإعمال الوحيدة. سمي ابو بكر رضي الله عنه بالصديق لانه. أيها المسلمون: لقد كان أبو بكر رجلاً تاجراً فلما أسلم سخر كل ماله في سبيل الإسلام وقضايا المسلمين صار يشتري بماله كل من أسلم من العبيد والإماء ممن يعذبهم مواليهم لأجل إسلامهم ثم يعتقهم حتى أعتنق عشرين من السابقين الأولين منهم بلال، وبادر إلى الدعوة إلى الله تعالى فأسلم على يده في أول يوم لإسلامه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة ثم أسلم على يده بعدها أبو عبيدة، وسخر أبو بكر كل إمكاناته في خدمة الدعوة ونصرة الإسلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما لأحد عندي يد إلا كافأته بها إلا ما كان من أبي بكر فإن له عندي يداً والله يكافئه بها ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر). ولم يكتفِ رضي الله عنه ببذل نفسه في سبيل الدين بل بجميع أسرته لقد ترك موطنه ومسكنه وأهله وعشيرته وأمواله مهاجراً ومخاطراً إلى المدينة نصرة لدين الله ورسول الله، ما ترك غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وخرج فيها بنفسه مجاهداً في سبيل الله بسيفه كما جاهد بماله.
تولى ابو بكر رضي الله عنه الخلافة سنة
أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أنا زغت فقوموني، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم١. قال مالك: لا يكون أحدًا إمامًا أبدًا إلا على هذا الشرط. وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتجت مكة، فسمع أبو قحافة ذلك، قال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أمر جلل فمن قام بالأمر بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت. وأخرج الواقدي من طرق عن عائشة، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وغيرهم -رضي الله عنهم- أن أبا بكر بويع يوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة٢. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: لم يجلس أبو بكر الصديق في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر حتى لقي الله، ولم يجلس عمر في مجلس أبي بكر حتى لقي الله، ولم يجلس عثمان في مجلس عمر حتى لقي الله٣. تولى
ابو بكر رضي الله عنه الخلافة سنة. فصل: فيما وقع في خلافته والذي وقع في أيامه من الأمور الكبار: تنفيذ جيش أسامة، وقتال أهل الردة، ومانعي الزكاة، ومسيلمة الكذاب، وجمع القرآن.
أهمية السمعة الطيبة للمسلم
وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس: فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق ، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: ( إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق. فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.