«ثلاث نقاط
ثلاثة أحرف لا تلفظ
ثلاثة أصوات صامتة
ثلاث نظرات عمياء
ثلاث عيون على صفّ واحد في جمجمة
ثلاث شهقات
ثلاث لطمات رأس بلا رنين على حافة معدنية لسرير في مشفى عام
ثلاث خطوات باتجاه شفير هاوية
ثلاث درجات إلى مقصلة أو مشنقة أو غرفة تحقيق أو أيّ نوع من منصات الموت المحلية
ثلاث طلقات مسدس كاتم للصوت
ثلاث نقاط...
ثلاث قطرات دم متخثرة». «ما رأيك لو تنام عندي هذه الليلة؟» سألني. «لا مكان آخر لدي» أجبت. مغارة البدوي بندر عبدالحميد، حيث قضينا السهرة، باتت مدخنة. رياض الصالح الحسين كبة. ورغم أن الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، فقد ذهبنا سيرًا على الأقدام، أقدام الروح ربما، يا للشاعرية! لأن أيًّا منّا لم يبال بالمسافة البعيدة التي تفصل بين مغارة بندر والوكر الذي آل إلى (رياض)، في حي الديوانية، بعد انتقال فواز الساجر منه – بدوره شدّ الرحال باكرًا – من يصدق أنني أعيد الآن كتابة ما كتبته منذ /35/ عامًا! في ذلك الحيّ الترابي الذي سكنت فيه يومًا عائشة أرناؤوط وصخر فرزات – هو الآخر مات – الحيّ الذي كثيرًا ما استحال عليَّ تذكر اسمه، ولا موقعه، ولا كيف مضينا إليه. كنت سعيدًا، وكان سعيدًا، لا أعرف (رياض الصالح الحسين)، وأرجو ألا يخيب هذا ظن بعضكم، إلا سعيدًا!
رياض الصالح الحسين كبة
مراسل العالم الآن – نيويورك: عن منشورات "بيتر أولياندير /الدفلة السامة" في نيويورك صدرت بالإنكليزية مجموعة أشعار بعنوان "تانغو تحت سقف ضيق" للشاعر السوري المرحوم رياض الصالح الحسين. المجموعة هي مختارات من أعماله السابقة التي صدرت في إبان حياته، وبعد وفاته المفاجئة، مع مقدمة عن مفهومه للشعر والحياة. ومما جاء في المقدمة:
بمفهومه للشعرية لم يكن رياض يثق بالحداثة دون تقاليد. ولكنه اختار الحداثة التي بمقدورها أن تهضم كل الاتجاهات والأساليب مع الاحتفاظ بالمصادر ومع وعي واضح بأهمية الذاكرة. وقد دمج رياض الموضوعات المعاصرة مع الأشكال الهجينة والتجريبية، حتى في مجال القصيدة الواحدة. رياض الصالح الحسين - وغداً أو اليوم سنحاول أن نسير في الشارع , نتكلم بغبطة... - حكم. أما لغته (ضمنا بعد الترجمة) كانت تتضمن تصورات سريالية متكررة وغريبة، مع طيف واسع ومؤثر شمل المفردات المقتبسة من الذاكرة الفنية والطبيعة، ومن الحروب والحب والغرام، دون أن يضحي بعالمه الحالم والرقيق والخيالي. ويذكر هذا التوجه بأسلوب فاليغو ونيرودا، ولا سيما نتيجة الإيقاع الذي تتخلله وقفات. وفي نفس الوقت يمكن أن تشعر بتهور عاطفته المتدفقة التي تصل لمشارف الولع العميق كما في قوله:
أريد أن أبني غرفة
تتسع لألف صديق
أريد أن أضع بحرا
في السجن
أريد أن أسرق الزنازين
وألقيها في البحر (قصيدة رغبات).
رياض الصالح الحسين للسرطان
أليس عجيبًا هذا الكلام؟ كيف لا يبالي به ثم أقول لا يبالي إلا به؟! ألم أقل: إنه كلام مضطرب متناقض. موقع الشاعر رياض الصالح الحسين | مجموعات الشاعر رياض الصالح حسين الكاملة. لكن أليس الخنجر من صاحبه وانتقل معه من الحياة إلى الموت؟ من النجوم والأشجار والبشر والقصائد، مرورًا بذلك النفق الطويل الملتوي والمعتم، كقطار أعمى، كدودة زاحفة، حيث لا شيء سوى الصمت والعزلة والتراب؟! أليس الخنجر الصديق الذي لم يكتف بقتله والسير بجنازته والاندفاع في حمل نعشه، كما يفعل الأصدقاء المقربون عادة، بل غاص معه إلى القبر، فكيف ينظر ببرودة إلى وجوده، إلى مشاركته مصيره.. إنه كل ما تبقى لديه من أدلة محسوسة على كونه حيًّا ذات يوم، إنه كل ذكرياته مكثفة، إنه مفتاح كل ذكرياته، إنه أكثر من ذكرى، إنه شيء يمكنه لمسه من الذين في الأعلى، أولئك الأحباء الذين لا يحب شيئًا في العالم أكثر من أن يكون واحدًا منهم؛ لأنه يريد أن يكون حيًّا، هذا كل ما يريد، إنه «رياض» الميت يريد أن يقوم من القبر ويعود إلى الحياة. إذن كان صوابًا ما سبق وقلته، لقد ثبت صدقي على رغم ما كنت أشعر بعسفي ومبالغتي فيه، أثبته دون قصد مني. في تلك الليلة التي لم تغمض فيها عيوننا سوى ساعتين أو ثلاث، حللنا بها ضيوفًا على الموت، كتبت بدوري قصيدة:
«هذهِ اللحظة
وعندَ هذا الشهيق
إنَّها حياةٌ جميلة.
جدران الموت
الموت بالنسبة لرياض، ليس مزاجًا أسود، لم يكن هواء أو دخانًا يملأ الفضاء، بل جدران تحيطه وتضيق عليه حتى تكاد تطبق على صدره، وتكتم على أنفاسه، جدران كان عالم الآخرين برمته يقبع خلفها، وكان على رياض أن يخترقها كي يسمعه ويراه، أن يخترقها كي يحيا هذا العالم. ولكن كيف بمقدوره أن يفعل؟ ماذا بمقدوره أن يفعل؟ ماذا لديه؟ قصائد، قصائد ولا شيء آخر، القصائد كانت كل سهامه ورماحه، وكانت دائمًا ترتد عليه منكسرة، محطمة، ميتة. أو فيما يرى النائم، تتحول القصائد إلى عصافير صغيرة، طائرات من الورق، تطير محلقة فوق هذه الجدران الثخينة العالية. إلا أن (رياض) لم يكن أحمق كفاية ليصدق أن قصائده تستطيع أن تطير به فوق جدران الموت. رياض الصالح الحسين عليه السلام. ليته كان يصدّق، ليته صدّق، وهو يعلم أن الموت لن تثنيه أيّ معاهدة، أيّ صفقة، عن مباغتته، وغدره. حتى الصداقة التي لم يجد مفرًّا من عقدها معه، وكان يفترض بها أن تساعده على تهيئة نفسه لعناقه، عناق الموت الأبدي، عناق الموت الأبدي، لم تجده نفعًا حتى في تأجيل موعد الحكم. ومقابل كل هذا كان (رياض) يتلهى ويسلو بالحب والأصدقاء والشعر والقضايا المصيرية، والقضايا التافهة، وغير ذلك من حبال، هي على ثخانتها، مهترئة وواهية، كان يتعلق بها ويتأرجح كطفلة صغيرة ذات ضفيرتين، وتحته الموت بعينه الوحيدة، بأظافره وأنيابه، الموت بخوائه، الموت بموته، يفغر شدقه المظلم الكبير، منتظرًا أن يسقط، بلحمه وشحمه وعظامه، فيه.