3- أخيرا: لو كان حديث البخاري ولفظه هو الصحيح ، فما مدى قوة دلالته على تحريم الغناء:
أ- يستدل المحرمون بلفظ (الاستحلال) ، وأنها تدل على استحلال الحرام. وهذا الإطلاق فيه نظر ؛ لأن الاستحلال قد يأتي في اللغة والشرع بمعنى إتيان الأمر وفعله ، حتى لو كان مباحا. ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف - ملك الجواب. · ففي حديث المقدام بن معدي كرب، يقول: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال: " يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي. · وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» ، وهم إنما استحلوا الفروج المباحة بالنكاح الذي شرعه الشارع. · وقال عمر بن الخطاب: «الطلاق بيدي من يستحل الفرج» ، وفي لفظ: « فلها الصداق بما يستحل من فرجها». · وقال عمر ايضًا: «ما ترونه يحل لي من مال الله؟ - أو قال: من هذا المال؟ -» ، قال: قلنا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، - قال: حسبته قال: ثم سألنا فقلنا له مثل قولنا الأول - فقال: «إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه: ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء، وحلتي في الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين»
· وقال علي بن أبي طالب للخوارج: «أقيدوني من ابن خباب قالوا: كلنا قتله ، فحينئذ استحل قتالهم»، أي: رآه حلالا ، لا أنه استحل منهم الحرام.
- الدرر السنية
- ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف - ملك الجواب
الدرر السنية
فهم بين خمر ونسا ء, ولهو وغناء, وخز وحرير. ولذا روى ابن ماجه هذا الحديث عن أبى مالك الأشعري بلفظ: « ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها, يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات, يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير », وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه, والبخاري في تاريخه. وكل من روى الحديث من طريق غير طريق هشام بن عمار, جعل الوعيد على شرب الخمر, وما المعازف إلا مكملة وتابعة.
ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف - ملك الجواب
ووصله البيهقي في "السنن الكبرى" (6317) فقال:" أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَدِيبُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِي ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ يَعْنِى ابْنَ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ به ". ثالثا:
أما محل الشبهة التي أوردها هؤلاء وغيرهم وهي قولهم: أن المحرم هو الجمع بينهم " ، فهي شبهة باطلة داحضة لما يلي:
أولا: أن لفظ الحديث:" يستحلون: الحر ، والحرير ، والخمر ، والمعازف ". الدرر السنية. وهنا قد جمع في الحديث بين ثلاثة أشياء ، وهي ( الزنى ، والحرير ، والخمر ، والمعازف)
قال القاري في "مرقاة المفاتيح" (8/3346):" الْمَعْنَى: يَعُدُّونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالَاتٍ بِإِرَادَاتِ شُبُهَاتٍ وَأَدِلَّةٍ وَاهِيَاتٍ "انتهى. وهنا ما يعرف بدلالة الاقتران ، وهي حجة إذا كان العطف بين المفردات ، كما في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ البقرة/196. قال الزركشي في "البحر المحيط" (8/111):" إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا ، بِأَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْخَبَرُ ، فَلَا خِلَافَ فِي مُشَارَكَتِهِ لِلْأَوَّلِ ، كَقَوْلِك: زَيْنَبُ طَالِقٌ وَعَمْرَةٌ ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ.
فقد يقول قائل: هذا يجعل اللفظ الأول أقوى ، والجواب: لكن اللفظ الأول فيه دلائل على نقص الضبط:
أ- التردد في اسم الصحابي يدل على نقص في الحفظ ، في حين أن اللفظ الثاني لم يتردد راويه في اسم الصحابي ، وسماه أبا مالك الأشعري ، وهو الصحيح فيه ، كما بين ذلك الإمام البخاري في التاريخ الكبير. ب- الاختلاف في لفظ (الحر) و(الخز)
فهذا الاختلاف الواقع في الحديث من الوجه الذي أخرجه البخاري يدل على نقص في ضبط راويه ، ويجعل اللفظ الآخر أولى بالاعتماد. ت- الاختلاف في اللفظ بهذه الطريقة يجعل الدلالة على التحريم المستنبطة من الحديث أبعد ما تكون عن القطع الذي يزعمه بعضهم. ***
2- اللفظ الثاني جاء لبيان تحريم الخمر خاصة ، ولا يدل على حرمة المعازف:
أعني حديث أبي مالك الأشعري إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض». أ- بدلالة القصة التي جاءت لبيان حرمة الخمر ، ولذلك لم يبوب البخاري وأبو داود للحديث بغير ذلك. ب- ليس في الحديث بلفظه الثاني ما يدل على تحريم المعازف ، فقد ذكر أنهم يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها ، ثم ذكر أنهم يغنون بالمعازف والقيان: «يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض».